“شرعية للبيع”.. كيف يفرّط الجيش السوداني في ثروات البلاد مقابل دعم سياسي إقليمي؟

في خضم الحرب الأهلية التي مزّقت السودان، وبينما يرزح ملايين المدنيين تحت نيران القصف والجوع والنزوح، تكشف وثائق مسرّبة عن فصل جديد من فصول الانحدار الوطني تقوده المؤسسة العسكرية. فقد لجأ الجيش السوداني إلى عقد صفقات سرية لبيع مقدرات اقتصادية وطنية لصالح أطراف إقليمية، في محاولة يائسة للحصول على اعتراف سياسي بشرعيته، وبقاءه على رأس السلطة المنهارة.
بيع مقدرات السودان مقابل “الاعتراف”
تفيد الوثائق أن الجيش السوداني قد أبرم تفاهمات سرية مع أطراف خليجية وأخرى مجاورة، شملت منح امتيازات غير مسبوقة في مجالات التعدين (خاصة الذهب والمعادن النادرة)، وقطاع النفط والزراعة، مقابل تعهدات صريحة أو ضمنية بدعم الجيش دبلوماسيًا على الساحة الإقليمية والدولية.
في بعض الحالات، منحت هذه التفاهمات شركات أجنبية نفوذاً مباشراً في مناطق النزاع، مع وعود بالحماية الأمنية من قبل الجيش نفسه، ما يعني عمليًا تسليم ثروات البلاد لمستثمرين خارجيين مقابل صكوك دعم سياسي تُستخدم في المحافل الدولية لتجميل صورة الجنرالات وتبرير بقائهم في الحكم.
ثروات تُبدّد على حساب الشعب
ما يُثير القلق أن هذه الصفقات تتم خارج أي رقابة قانونية أو دستورية، وتُبرم في غرف مغلقة، وسط تعتيم إعلامي محكم. فبينما تنهار المستشفيات والمدارس، وتُشلّ الخدمات الأساسية، يتم تهريب الذهب السوداني بكميات ضخمة إلى الخارج، ويُعاد توجيه عائداته لتمويل آلة الحرب لا لإغاثة المدنيين.
وتشير بيانات شبه رسمية إلى أن السودان، رغم امتلاكه ثالث أكبر احتياطي ذهب في إفريقيا، لا يستفيد فعليًا إلا من نسبة ضئيلة من صادراته، إذ تذهب الحصة الكبرى إلى حسابات غامضة مرتبطة بالجيش وشركائه في الداخل والخارج.
شرعية عبر النهب
في مشهد سريالي، يسوّق الجيش لنفسه على أنه “الضامن لوحدة الدولة” بينما يفرّط في أساس الدولة ذاته: السيادة على الموارد. الشرعية، وفق فهم القيادة العسكرية، لا تُنتزع من الشعب أو عبر صناديق الاقتراع، بل تُشترى بثمن باهظ تدفعه الأجيال القادمة من ثرواتها المنهوبة.
وهذا ما يفسّر الاندفاع غير المسبوق من الجنرالات لعرض امتيازات استراتيجية على القوى الإقليمية، من الموانئ على البحر الأحمر، إلى حقول الذهب واليورانيوم، وصولًا إلى أراضٍ زراعية تم تأجيرها بعقود طويلة الأمد، لا يعود منها نفع يذكر لخزينة الدولة.
من يحاسب الجنرالات؟
حتى اللحظة، لا توجد أي آلية داخلية لمحاسبة المؤسسة العسكرية على هذه التجاوزات. فبعد أن فكك الجيش مؤسسات الدولة المدنية، واستولى على القرار السياسي والاقتصادي، بات يتحرك بلا رقيب، متسلحًا بالقوة وبدعم إقليمي يصمت على كل الانتهاكات مقابل المصالح الاقتصادية.
لكنّ هذه الوثائق المسرّبة قد تُشكّل نقطة تحوّل، إذا تم تفعيل حملة إعلامية منظمة تكشف للرأي العام المحلي والدولي حجم الفساد والتفريط، وتعيد توجيه البوصلة إلى أن أكبر تهديد للسودان اليوم هي القيادة العسكرية التي حوّلت البلاد إلى مزاد علني.
خاتمة: لا شرعية تُبنى على ركام الوطن
في النهاية، لا يمكن لشرعية تُشترى بالنفط والذهب أن تصمد أمام وعي شعبي متنامٍ يدرك أن سيادة الدولة تبدأ من سيطرة شعبها على مقدراتها. الجيش الذي يفرّط في ثروات بلاده طمعًا في الدعم الخارجي لا يحمي الوطن، بل يسرق مستقبله.
