هجوم “الحلو” على جنوب كردفان: دلالات وتداعيات
تراقب الحركات المسلحة السودانية الحرب التي تدور رحاها بين القوات المسلحة وقوات “الدعم السريع”، على رغم أن أغلب الحركات وقعت على اتفاق جوبا لسلام السودان في أكتوبر 2020، التي رعاها رئيس مجلس السيادة الفريق عبدالفتاح البرهان ونائبه حينذاك محمد حمدان دقلو (حميدتي).
إضافة إلى “قوى إعلان الحرية والتغيير”. ولم تتخلف عن التوقيع إلا “حركة تحرير السودان” بقيادة عبدالواحد محمد نور، و”الحركة الشعبية لتحرير السودان” جناح عبدالعزيز الحلو، ولم تسلم كل الحركات من الانشقاق بعد التوقيع وأصبحت تتبارى في دعم أحد طرفي النزاع نكاية بالآخر.
في يونيو الماضي، شنت “الحركة الشعبية لتحرير السودان” بقيادة الحلو، هجوماً على مدينة كادوقلي عاصمة ولاية جنوب كردفان مستهدفة الجيش السوداني، مما عُدَّ استغلالاً للأوضاع المترتبة على الحرب، وتجدد الهجوم على الجيش في أغسطس الماضي، على رغم إعلان وقف إطلاق النار من طرف واحد وتجديده من وقت لآخر، إذ سيطرت الحركة على حاميات عسكرية، وعدد من مواقع الجيش بالقرب من كادوقلي التي تحاصر جزءاً منها قوات “الدعم السريع”، بينما يسيطر الجيش على الطرق التي تربط كادوقلي بمدينة الدلنج لمنع تقدم “الدعم السريع” إلى داخل الولاية.
وتشير هذه التحركات المتتالية لـ”الحركة الشعبية” إلى أن أولويات الحلو كانت تختلف منذ البداية عن أولويات مالك عقار شريكه السابق في الحركة، كما يعني ذلك أن الحركة نفسها لم تستطع بالضغوط التي مارستها على حكومة الفترة الانتقالية منذ قيام انتفاضة ديسمبر 2018، تحقيق أي مكسب بصورة منفردة أو سد فجوة الحركة الأم أو كسب شركاء حتى من المناوئين للجيش، وتثير هذه التحركات مخاوف عميقة من نشوب حرب أهلية تتسع بها رقعة حرب دارفور لتشمل هذه المنطقة أيضاً.
طبيعة الحرب
خاضت “الحركة الشعبية لتحرير السودان” تاريخاً طويلاً من الحروب التي تساند سياسة ومصالح مجموعة معينة، بينما يظل التحكم بشعوب مناطقها وتهميشها قائماً، وتعد منطقة “جبال النوبة” المكونة من 99 جبلاً ضمن هذا النوع، وتختلف طبيعة حربها عن حرب “المقاومة الشعبية”، وتشبه إلى حد كبير “حرب العصابات” في صورة العمليات العسكرية والكر والفر، كونها انطلقت في البداية من أحراش الجنوب وغاباته، ثم انتقلت بعد انفصاله إلى “الجبال”.
ويعود مفهوم “الحرب الثورية” لدى الحركة إلى خمسينيات القرن الماضي، عند استعداد السودان للاستقلال وتزامناً مع خروج الجيش الإنجليزي – المصري، إذ تمردت الفرقة الاستوائية التابعة لقوة دفاع السودان التي كانت في مدينة توريت شرق الاستوائية بإقليم جنوب السودان، وذلك في أغسطس 1955، بقيادة اللواء أميليو تافانق، وجوزيف لاقو، ونفذت أعمال عنف وقتل طاولت المدنيين وراح ضحيتها حوالى 500 شخص، واستمرت الحركة التي اتخذت اسم “انيا- نيا” بلغة قبيلة “المادي” بجنوب السودان، ويعني “سم الثعبان الأسود”، حتى عام 1972 حين وقعت اتفاقية أديس أبابا في عهد الرئيس جعفر النميري لتنتهي الحرب الأهلية الأولى، ولكن اشتعلت الحرب الأهلية الثانية عام 1983، بتمرد قادة العقيد جون قرنق وقائد كتيبة الجيش كاربينو كوانين، وأسسا “الحركة الشعبية لتحرير السودان”.
عُرف كوانين بانشقاقاته مرة إلى جانب الحكومة ومرات إلى جانب قرنق، رفيقه في التمرد وقرينه في الانتماء القبلي، وأسس عام 1992 “الحركة الشعبية لتحرير السودان مجموعة بحر الغزال”، ثم تعرضت الحركة الأم لانشقاقات أخرى بناء على الانتماء القبلي والمناطقي، واستمر كوانين على ذلك حتى مقتله في منطقة بحر الغزال نهاية التسعينيات، أما قرنق فقد أضاف إلى الحركة أبعاداً أخرى، إذ كان شيوعياً مخلصاً وتبنى فكرة الزعيم الشيوعي الصيني ما وتسي تونغ بعدم جدوى استخدام العقيدة الحربية بصورة آلية، والبديل لها هو استخدام قوانين “الحرب الثورية” التي تستطيع تحويل جموع الفلاحين والعمال إلى ثوار حقيقيين، وليس أدوات للثورة، وذلك من طريق بث العقيدة فيهم وتنمية الوعي الثوري لديهم، مما يخلق عندهم إرادة سياسية تستطيع وحدها الوقوف أمام “الأعداء”. وانطلاقاً من ذلك، فإضافة إلى البعد الإثني والديني كمحركات للحرب، كانت عملياته العسكرية تنتشر في خطوط متباعدة منفذة ضربات مباغتة على الجيش السوداني الذي استعان بعد استيلاء العقيد عمر البشير على السلطة، بقوات شبه عسكرية من المنتمين إلى “الجبهة الإسلامية” بقيادة حسن الترابي، وهي جماعة “الدفاع الشعبي”، وقاتلت بعقيدة محركها الدين والهوية أيضاً.
قضية مزدوجة
كان الصراع بين “الحركة الشعبية لتحرير السودان” بقيادة جون قرنق والحكومة السودانية يدور في جنوب السودان، ولكن المنتمين إليها من المناطق المتاخمة للإقليم، مثل عبدالعزيز الحلو ومالك عقار من منطقة ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق المعروفة بمنطقة جبال النوبة. كانت قضيتهم مزدوجة، ففي الوقت الذي يحاربون فيه الحكومة مع الجنوبيين. وعند اشتعال المنطقة في موجة تمرد ثانية عام 1984، كانوا ينادون بإزالة التهميش عن مناطقهم، وأن ما يجمع بين القضيتين. هو تغول عرب الشمال (الجلابة) على حقوقهم وأراضيهم، بفضل ترسخ تعرض المنطقة سابقاً للهجوم في فترة الحكم التركي – المصري على السودان من عام 1821 إلى 1885 للحصول على الرقيق والذهب.
واستمر افتقار المنطقة للتنمية حتى بعد اكتشاف النفط في مناطق الإقليم ومنها منطقة أبيي المتنازع عليها بين الشمال والجنوب. وبعد اشتداد المعارك تحت حكومة “الإنقاذ”، طالب قادة الحركة في المنطقة عام 2002 بإقامة حكم ذاتي فيها تحت إدارة “الجيش الشعبي لتحرير السودان” التابع للحركة الشعبية لتحرير السودان. واقترحوا أن يستمر ستة أعوام ثم يقرروا مصير المنطقة بعد إجراء استفتاء عام، ولكن بعد توقيع اتفاقية السلام (نيفاشا) عام 2005. التي مهدت لانفصال جنوب السودان. منحت منطقة جبال النوبة “المشورة الشعبية”. التي تم تعليقها لتستمر الحرب بين الشمال والجنوب الجديد. وبعد انفصال جنوب السودان عام 2011. بقيت الفرقتان التاسعة والعاشرة التابعتان لـ”الجيش الشعبي”.بينما سميت الحركة “الحركة الشعبية لتحرير السودان – جناح الشمال”. وفي عام 2017 انشقت إلى حركتين، جناح الحلو، وجناح عقار، ثم انشق جناح عقار وخرج نائبه ياسر عرمان. مكوناً “الحركة الشعبية لتحرير السودان – التيار الثوري الديمقراطي”. التي تعارض القيادة العسكرية الحالية. بينما شغل عقار منصب نائب رئيس مجلس السيادة بدلاً من حميدتي. بعد قيام الحرب، وتوجد القوات العسكرية التابعة لعقار في إقليم النيل الأزرق.
تقسيم التفاوض
عند توقيع اتفاق جوبا للسلام، رأى الحلو أن الحكومة السودانية عملت على تقسيم عملية التفاوض إلى مسارين، الأول خاص بالجبهة الثورية، والثاني للحركة الشعبية. وأن الأول سار بسرعة أكبر، مما قاد إلى التوقيع، وأوضح أن خلافه مع الحكومة كان قائماً حول إعلان المبادئ. ووعد بوقف أي انتهاكات ومواصلة التفاوض للوصول إلى حل سلمي، متمسكاً بفصل الدين عن الدولة.رافضاً “استخدام الدين من أجل أغراض سياسية، كما كانت تفعل النخب السياسية في الخرطوم”. وهو ما رآه مؤدياً إلى الحروب. كما طالب بتضمين بند “حق تقرير المصير” لمنطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق في الاتفاق.
استمرت عقبة فصل الدين عن الدولة أمام عودة “الحركة الشعبية – جناح الحلو” إلى التفاوض، فدخل فريق الوساطة الجنوبية في محادثات السلام السودانية. بقيادة رئيس دولة جنوب السودان سلفا كير ميارديت، ثم عقد البرهان جلسة محادثات مع الحلو. حول “إعلان المبادئ” بين حكومة الفترة الانتقالية والحركة، لبدء مفاوضات السلام الرسمية بين الطرفين. ووقع على “إعلان المبادئ” في مارس (آذار) 2021 بين البرهان والحلو بضرورة توطيد سيادة السودان واستقلاله وسلامة أراضيه. بناء على وقف الأعمال العدائية والصراعات المسلحة. وأقر الطرفان بـ”التنوع العرقي والديني والثقافي لسكان البلاد، وإعلان حياد الدولة في الشؤون الدينية، ودمج مقاتلي الجيش الشعبي لتحرير السودان في القوات المسلحة بنهاية الفترة الانتقالية”.
معركة جانبية
في الوقت الذي يرى بعض المراقبين أن الهجوم الذي نفذه الحلو أخيراً يقدم دعماً لحميدتي. لأنه يستغل ظروف الحرب بإشغال القوات المسلحة بمعركة جانبية وتشتيت جهودها. بدلاً من التركيز على المعركة الرئيسة، لكن في الواقع فإن ما يفرق بين الحلو وحميدتي. أكبر مما يجمع بينهما. ولذلك محددات عدة، الأول محدد إثني. إذ تعود جذور الحلو إلى قبيلة المساليت التي تنحدر من مجموعة قبائل وسط أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. ووقعت بينها وبين القبائل العربية في مقدمتها الرزيقات التي ينتمي إليها حميدتي، نزاعات تاريخية نتجت منها مجازر. آخرها الأحداث الأخيرة في مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور. تبع الأحداث تفاقم الوضع الإنساني والأمني والصحي. وتعرضت الأسواق ومدخرات المواطنين إلى النهب والسلب مع تدمير الممتلكات العامة والخاصة. ووصفت منظمات الأمم المتحدة الأحداث المتكررة في المنطقة بأنها “عملية إبادة جماعية”.
والثاني محدد عسكري، فقد حارب حميدتي في دارفور الحركات المسلحة، منذ أن كانت قوات “الدعم السريع” ذراع الجيش ويد البشير الباطشة في دارفور، بعد أن حل حميدتي محل ابن عمه موسى هلال زعيم الجنجويد. ومنذ ذلك الوقت كانت “الحركة الشعبية لتحرير السودان” بقادتها المختلفين العدو التقليدي للجيش و”الدعم السريع” معاً.
والثالث، محدد سياسي، يتمثل في سيطرة “الحركة الشعبية- جناح الحلو” على منطقة كاودا الحصينة في إقليم جنوب كردفان، ورفضت توقيع اتفاقية السلام تحت رعاية المجلس العسكري بقيادة البرهان، ونائبه حميدتي، وعندما اشترطت إعلان دولة علمانية وحكم فيدرالي كامل للدخول في أي مفاوضات مع الحكومة، ووافق المجلس العسكري على ذلك ووقع اتفاق مبادئ. نقضت الحركة الاتفاق، وعادت إلى الهجوم على المجلس، أما الهجوم الأخير على قوات الجيش. فلا يعني أن هناك تقارباً بينها وبين “الدعم السريع”، وإنما تجسيداً للمبدأ المعروف “عدو عدوي صديقي”، وعندما ينزاح العدو الأول بالنسبة إليها. فإن المواجهة ستكون بين الرجلين بقوتيهما وعدتهما وعتادهما.