تسريبات

هجليج والتحول الأميركي: مفترق جديد للحرب السودانية


شهدت السودان خلال ديسمبر 2025 سلسلة تحولات ميدانية وسياسية موازية، كشفت ثلاثة تقارير إعلامية مفصلية هشاشة السلطة في بورتسودان، وتفاعل القوى الإقليمية والدولية مع الحرب المستمرة منذ أبريل 2023. تقريرا قناة “الحرة” ركزا على السيطرة المفاجئة لقوات “تأسيس” على حقل هجليج النفطي، وعلى تحول إدارة الرئيس ترامب في التعاطي مع الأزمة، فيما كشف تقرير BBC عن الكلفة الإنسانية المروعة للحرب عبر توثيق مقتل 1700 مدني في غارات جوية. هذه الأحداث تشكل معًا مفترق طرق استراتيجي يعيد رسم خريطة الصراع في السودان.

هجليج: السيطرة التي تتجاوز حدود الأرض

أبرز التقرير الأول لقناة “الحرة” أن قوات تأسيس تمكنت من السيطرة على حقل هجليج النفطي في جنوب كردفان، أحد أهم مواقع إنتاج النفط في السودان، والذي يمثل نقطة معالجة رئيسية لنفط جنوب السودان. سيطرة تأسيس على هذا الحقل لا تعني فقط تحقيق مكاسب ميدانية، بل امتلاك ورقة ضغط اقتصادية حيوية، إذ يمر عبر خط الأنابيب الممتد إلى بورتسودان جزء كبير من الموارد النقدية التي تعتمد عليها السلطة السودانية لتأمين التمويل بالعملة الصعبة.

ولفت التقرير إلى أن انسحاب جيش البرهان وعمّال المنشآت جاء لتجنب أي مواجهات قد تلحق أضرارًا بالبنية التحتية، ما يعكس إدراكًا ضمنيًا بأن المواجهة على هذا الموقع قد تحمل تبعات اقتصادية وسياسية جسيمة. هذا الانسحاب منح قوات تأسيس مكاسب استراتيجية كبيرة، إذ لم يقتصر الأمر على السيطرة على الأرض، بل توسع ليشمل النفوذ على الموارد المالية والسيطرة على جزء من الاقتصاد السوداني في قلب منطقة النزاع.

إعلان قوات تأسيس عبر “تيليغرام” عن التزامها بحماية المنشآت واستمرار الإمدادات النفطية لم يخفف المخاوف في الأسواق الدولية، التي لا تزال تراهن على إمكانية أن يؤدي أي صراع جديد إلى تعطيل الصادرات. هذه التطورات تؤكد أن الحرب في السودان لم تعد مجرد معارك عسكرية على الأرض، بل صراع على مراكز النفوذ الاقتصادي والسيطرة على الموارد الحيوية.

واشنطن: التحول الذي يعيد تشكيل الحسابات

التقرير الثاني لقناة “الحرة” ركز على التحول النوعي في تعامل إدارة ترامب مع الملف السوداني، مشيرًا إلى أن الرئيس الأميركي يتابع الأزمة شخصيًا ولا يكتفي بإرسال مبعوثين، وهو مؤشر على تصاعد أهمية السودان على جدول الأولويات الأميركية.

حدّد التقرير ثلاث عقد رئيسية تواجه أي مسار تسوية محتملة. الأولى هي الخلاف بين رؤية واشنطن والرباعية الدولية من جهة، ورؤية جيش البرهان من جهة أخرى، خصوصًا رفض سلطة بورتسودان المشاركة في حوار تشارك فيه الإمارات، رغم غياب أي ملفات إثباتية ضد أبوظبي. الثانية تتعلق بملف الإسلاميين داخل الجيش، إذ الولايات المتحدة لا تقتنع بنفي الجيش وجود عناصر إسلامية، في وقت تتجه فيه لتصنيف جماعة الإخوان “منظمة إرهابية أجنبية”. العقبة الثالثة كانت ملف القاعدة الروسية في بورتسودان، وهو ملف حساس يهدد الأمن الاستراتيجي للبحر الأحمر، ويزيد من تعقيد التوازنات الإقليمية والدولية.

التقاطع بين الضغط الأميركي على الإسلاميين في الجيش والتوجهات الإقليمية للإمارات يوضح أن حرب النفوذ في السودان ليست محلية فقط، بل جزء من صراع أوسع في المنطقة، يعيد ترتيب التحالفات ويضع سلطة بورتسودان أمام تحديات متصاعدة على صعيد السياسة الداخلية والخارجية.

BBC: السماء التي قتلت المدنيين

بينما ركزت تقارير “الحرة” على الميدان والسياسة، جاء تقرير BBC ليكشف الكلفة الإنسانية الهائلة للحرب. اعتمادًا على بيانات مشروع “شاهد السودان”، أظهر التحقيق أن القوات الجوية السودانية نفذت غارات جوية أسفرت عن مقتل 1700 مدني على الأقل، مستهدفة أحياء سكنية وأسواقًا ومدارس ومخيمات نازحين.

التحليل أشار إلى أن الجيش استخدم قنابل غير موجهة في مناطق مأهولة بالسكان، ما يزيد من احتمالات سقوط ضحايا مدنيين بشكل كبير. هذه النتائج تكشف نمطًا متكررًا في استهداف المدنيين، وهو ما يضع الجيش السوداني تحت ضغط دولي متزايد، ويزيد من تعقيد أي تعامل سياسي معه على المستوى الإقليمي والدولي.

تقرير BBC لا يكتفي بتوثيق حجم الكارثة، بل يقدم أيضًا مادة ضغط قوية للجهات الدولية التي تتابع الأزمة، ويعيد ملف حقوق الإنسان إلى قلب النقاش السياسي، خصوصًا في لحظة تشهد تحركًا أميركيًا مباشرًا في السودان.

موازنة المشهد: الاقتصاد والسياسة والحقوق

قراءة التقارير الثلاثة معًا تظهر أن السودان يقف أمام مفترق طرق خطير. سيطرة قوات تأسيس على هجليج كشفت هشاشة السلطة في إدارة الموارد الاستراتيجية، والتحول الأميركي أظهر أن صبر واشنطن بدأ ينفد، في حين كشف تقرير BBC عن الأبعاد الإنسانية للحرب، موضحًا أن استمرار النزاع يحمل في طياته كلفة بشرية مرتفعة.

هذا التلاقي بين النفوذ الاقتصادي والتحولات السياسية والضغط الحقوقي يطرح تساؤلات حول شكل الحرب المقبلة، ومستوى تدخل القوى الدولية والإقليمية، واحتمالات التسوية التي قد تفرضها الأحداث الميدانية والسياسة الدولية.

منهجية هذه التقارير الثلاثة تكشف بوضوح أن السودان لا يعيش أزمة عسكرية فحسب، بل صراعًا متعدد الأبعاد، حيث تتقاطع المصالح المحلية والإقليمية والدولية على الأرض، وتتحول السماء إلى مسرح للانتهاكات، بينما تتغير قواعد اللعبة الاقتصادية والسياسية.

مفترق جديد في الحرب السودانية

سيطرة هجليج والتحول الأميركي وتقرير BBC ليسوا أحداثًا مستقلة، بل حلقات متصلة تعكس تحولات استراتيجية في الصراع السوداني. المرحلة المقبلة لن تكون كما قبل ديسمبر 2025، فميزان القوة بدأ يميل لمصلحة الجهات التي تمتلك أوراق النفوذ الاقتصادي والدعم الدولي، في حين تزداد الضغوط على الجيش وحكومة بورتسودان لوقف الانتهاكات وحماية المدنيين. السودان، بهذا المعنى، يدخل فصلًا جديدًا من الحرب، حيث تتقاطع السياسة والاقتصاد وحقوق الإنسان في مشهد متشابك يفرض على العالم إعادة النظر في دوره ومسؤولياته تجاه هذا الصراع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى