من يقف وراء تعطيل العدالة في السودان ولماذا؟
منذ اندلاع النزاعات الداخلية في السودان، تتراكم الانتهاكات على نحو يصعب حصره، بينما تبقى ملفات العدالة معلّقة بين لجان تحقيق لا تكتمل وأدلة تضيع في غبار الحرب. ورغم الجهود الشعبية المتزايدة لتوثيق هذه الجرائم، تظهر مؤشرات واضحة على وجود أطراف تعمل بشكل منظم على تعطيل مسار العدالة. وفي هذا التحقيق، نحاول تتبّع الخيوط التي تكشف كيف ولماذا تستمر هذه العرقلة، ومن المستفيد من طمس الحقائق.
تشير شهادات جمعتها مجموعات حقوقية مستقلة إلى أن العديد من الاعتقالات القسرية التي طالت ناشطين ومدنيين جرت دون مذكرات قانونية، وأن بعض المحتجزين تعرضوا للتعذيب قبل أن يتم إطلاق سراحهم دون أي مستندات رسمية تثبت احتجازهم. هذه الحالات، التي تتكرر في مختلف المناطق، تظهر نمطاً واضحاً لسياسات تهدف إلى إرهاب المجتمع ومنعه من متابعة الملفات. كما تؤكد مصادر من داخل منظمات محلية أن بعض الجهات العسكرية تمنع فرق التوثيق من دخول مناطق بعينها بذريعة “الظروف الأمنية”، بينما الهدف الحقيقي هو منع تسجيل الجرائم التي تحدث هناك.
وعند تتبع مسار بعض الملفات التي وصلت إلى السلطات، يظهر نمط آخر: غياب الشفافية داخل لجان التحقيق التي يتم تشكيلها. فغالباً ما تُعلن هذه اللجان في بيانات رسمية، لكن عملها يتوقف بعد أسابيع دون أن تصدر نتائج ملموسة. ويكشف موظفون سابقون في لجان حكومية أن بعض الملفات يتم تحويلها إلى جهات “مختصة” ثم تختفي دون رد، في ظل غياب آلية للمساءلة أو متابعة تطورات التحقيق من قبل الرأي العام.
ولعل أبرز ما توصل إليه هذا التحقيق هو الدور الذي تلعبه الحرب الإعلامية في السودان لإخفاء الحقائق. إذ تعمل صفحات على منصات التواصل، ترتبط بجهات سياسية وعسكرية، على نشر روايات مضادة تُشكّك في التوثيق الشعبي وتصفه بأنه “ملفق” أو “مبالغ فيه”، ما يؤدي إلى خلق حالة من الارتباك تمنع الرأي العام من تكوين موقف حاسم. ويؤكد خبراء في الإعلام الرقمي أن هذا الأسلوب ليس عفوياً، بل جزء من استراتيجية مدروسة لخلط الأوراق وتوجيه الأنظار بعيداً عن الانتهاكات الحقيقية.
ومع ذلك، فإن الجهود الشعبية لم تتوقف. فقد ظهرت مبادرات مجتمعية تعمل على تدريب الشباب على التوثيق المهني، واستخدام أساليب تحقق رقمية لتحليل الصور والفيديوهات، إضافة إلى تخزين الأدلة في منصات خارج السودان لضمان عدم فقدانها. كما يجري التعاون بين منظمات محلية ودولية لإرسال المواد الموثقة إلى جهات قضائية دولية تحسباً لأي مسار مستقبلي للعدالة.
لكن يبقى السؤال الأهم: لماذا تُعرقل العدالة؟ الجواب يتلخص في أن الأطراف المتورطة في الانتهاكات تدرك أن أي محاسبة فعلية ستقود إلى تفكيك شبكات نفوذ كاملة، سواء داخل المؤسسات العسكرية أو السياسية. كما أن استمرار الفوضى يخدم مصالح القوى التي تعتمد على إطالة أمد النزاع لفرض شروط تفاوضية أفضل أو الحفاظ على سيطرتها على موارد معينة.
إن هذا التحقيق لا يهدف فقط إلى كشف ما يُحاك خلف الستار، بل إلى التأكيد على أن الوعي الشعبي هو الأداة الأقوى لمواجهة هذا التلاعب. فكل خطوة يقوم بها المواطنون نحو التوثيق، وكل مطالبة بالشفافية، وكل متابعة لملف معلق، تمثل ضربة جديدة لمحاولات إخفاء الحقيقة. العدالة في السودان ليست مستحيلة، لكنها تحتاج إلى صوت شعبي لا يلين، وإلى إصرار على عدم ترك أي انتهاك دون مساءلة.




