تسريبات

من دعمٍ إلى ارتياب: كيف خسر البرهان حلفاءه الإسلاميين؟


في بدايات الحرب السودانية، بدت العلاقة بين الفريق عبد الفتاح البرهان والحركة الإسلامية كتحالفٍ متينٍ وضروري، يجمع بين مصلحة السلطة واندفاع الأيديولوجيا.
لكن ما بدأ كزواج ميداني مؤقت تحوّل مع مرور الوقت إلى صراع مكتوم بين طرفين يتبادلان الشك والاتهام.
اليوم، وبعد سقوط مدينة الفاشر، لم يعد خافيًا أن هذا التحالف يترنّح، وأن البرهان خسر أقوى شبكاته الداعمة داخل الجيش والمجتمع.

جذور العلاقة: من التلاقي إلى التوظيف

بدأت العلاقة بين البرهان والحركة الإسلامية منذ السنوات الأخيرة لنظام البشير، حين كان البرهان أحد الضباط الذين حافظوا على صلاتٍ هادئة بالحركة دون الانخراط العلني في أنشطتها.
لكن بعد سقوط البشير في 2019، ومع تصاعد الضغوط المدنية والدولية لإقصاء الإسلاميين، اختار البرهان أن يظهر بمظهر القائد “المستقل”، دون أن يقطع حبال التواصل مع رموز النظام السابق الذين ظلوا يمتلكون نفوذًا واسعًا داخل الجيش والأمن والاقتصاد.

ومع اندلاع الحرب ضد قوات الدعم السريع، وجد البرهان نفسه بحاجة إلى دعم الإسلاميين ميدانيًا، إذ يمتلكون شبكات تعبئة وقدرات تنظيمية لا يستهان بها. وهكذا، عاد التواصل إلى الواجهة، لكن في صيغةٍ جديدة: تحالف الضرورة، لا تحالف الثقة.

خطاب مزدوج وسلوك متناقض

استقصاء تصريحات البرهان منذ بداية الحرب يكشف عن تناقضٍ واضح في الخطاب.
ففي الوقت الذي كان يؤكد فيه أن الجيش لا يمثل أي تيار سياسي وأنه “جيش كل السودانيين”، كانت قراراته الميدانية تسير باتجاهٍ آخر، عبر إعادة ضباط معروفين بانتمائهم للحركة الإسلامية، والسماح بعودة بعض كوادرهم إلى مواقع مؤثرة في الجهاز التنفيذي.
هذا الخطاب المزدوج – بحسب مصادر داخل المجلس العسكري – كان محاولة لطمأنة الخارج، خصوصًا القاهرة والرياض وواشنطن، بأنه لا يسعى لإحياء مشروع “الإخوان المسلمين”، بينما يعتمد داخليًا على قواعدهم لمواجهة الدعم السريع.

لكن هذا التوازن الهشّ لم يدم طويلًا. فمع توسع نفوذ الإسلاميين في بعض مفاصل الجيش، بدأ البرهان يشعر بأنهم يحاولون إعادة إنتاج شبكات السيطرة القديمة، وهو ما دفعه إلى اتخاذ سلسلة من الإجراءات لتقليص نفوذهم.

قرارات داخلية غيّرت قواعد اللعبة

تشير وثائق اطلع عليها أحد الصحفيين العاملين في الخرطوم إلى أن البرهان أصدر خلال الأشهر الماضية أوامر مباشرة بإبعاد عدد من الضباط المحسوبين على الإسلاميين من مواقع القيادة، ونقل بعضهم إلى إدارات فرعية بعيدة عن خطوط المواجهة.
كما أمر بتجميد ملفات اقتصادية كانت تُدار من قبل رجال أعمال مقربين من الحركة الإسلامية، بزعم “منع استغلال موارد الدولة في أغراض سياسية”.

هذه القرارات أحدثت شرخًا واسعًا داخل منظومة التحالف، إذ شعر الإسلاميون أنهم يُستَخدمون كغطاء مؤقت للحرب، بينما تُسحب منهم أدوات التأثير الحقيقية.
يقول مصدر من داخل “تنظيم الحركة الإسلامية الوطني” إن “البرهان يريد أن يقاتل الإسلاميون نيابة عنه، لكن دون أن يكون لهم رأي في القرار. إنه تحالف قائم على الخداع المتبادل”.

الفاشر: لحظة الانكشاف الكامل

كانت معركة الفاشر نقطة التحول الحاسمة في العلاقة.
فبحسب مصادر ميدانية، فإن غياب التنسيق بين القوات التابعة للجيش وتلك المكوّنة من مقاتلين إسلاميين ساهم في انهيار الدفاعات خلال الساعات الأولى من الهجوم.
عدد من القادة الميدانيين رفضوا تنفيذ أوامر انسحاب صدرت عن قيادة الجيش، معتبرين أن القرارات كانت “سياسية أكثر من كونها عسكرية”.
النتيجة كانت كارثية: انسحابات متفرقة، تبادل للاتهامات، وتراجع ثقة غير مسبوق بين الجانبين.

بعد سقوط المدينة، عقدت الحركة الإسلامية سلسلة اجتماعات سرّية لتقييم الموقف.
التقارير التي خرجت عن تلك الاجتماعات – والتي حصلت عليها مصادر إعلامية – تشير إلى أن أغلبية القيادات ترى أن البرهان “خان التفاهمات الضمنية” وأن استمرار التحالف معه لم يعد مجديًا.
بل إن بعض الأصوات طالبت بإنشاء كيان ميداني مستقل يخوض الحرب بمعزل عن الجيش، في ما يشبه الانشقاق غير المعلن.

تآكل الحلف.. وصمت البرهان

رغم وضوح مؤشرات الانقسام، التزم البرهان الصمت.
مصدر في رئاسة الأركان أكد أن “القائد العام يدرك حجم التململ داخل صفوف الإسلاميين، لكنه يراهن على أنهم لا يملكون بديلًا سياسيًا أو عسكريًا قادرًا على منافسته”.
غير أن هذه القراءة قد تكون مضللة، إذ أن الإسلاميين بدأوا بالفعل في إعادة تنظيم صفوفهم خارج الإطار العسكري الرسمي، مستخدمين واجهات مدنية وشبكات اجتماعية للتعبئة ضد البرهان.

إلى جانب ذلك، بدأ الدعم الإقليمي الذي كان يستند إليه البرهان يتآكل. فالقاهرة وأبوظبي والرياض، التي كانت تتعامل معه كضمانة لاحتواء الإسلاميين، باتت ترى أنه فقد السيطرة على المشهد، وأن تحالفاته المتناقضة تهدد أي أفق لتسوية سياسية أو استقرار داخلي.

الانقسامات داخل القوة المشتركة

في الميدان، بدأت الحركات المسلحة المتحالفة مع الجيش تُظهر تململها بدورها.
فبعض الفصائل التي قاتلت إلى جانب القوات الحكومية في دارفور أعلنت تجميد مشاركتها بعد الخلافات الأخيرة مع قيادات إسلامية داخل القوة المشتركة.
هذا التفكك المتسارع في البنية القتالية يُنذر بانهيار التنسيق العسكري، ويفتح الباب أمام صراعات داخلية جديدة بين الإسلاميين والجيش النظامي على النفوذ والمناطق.

تقارير استخباراتية: شك متبادل وارتباك في القرار

تشير تسريبات من تقارير استخباراتية إلى أن قيادة الجيش باتت تتعامل بحذر شديد مع الضباط المنتمين أو المتعاطفين مع الإسلاميين، بعد ورود معلومات عن رفض بعضهم تنفيذ أوامر القيادة أو تسريبها لمقربين من الحركة.
في المقابل، تتهم قيادات إسلامية داخل الجيش البرهان ومساعديه بمحاولة “تطهير مؤسسات الدولة من العناصر المخلصة للمشروع الإسلامي”، ما فاقم الشعور بالخيانة داخل صفوفهم.

هذا الشك المتبادل أنتج حالة من الارتباك الإداري والعسكري، انعكست مباشرة على أداء الجيش في أكثر من جبهة، وأدت إلى تراجع الانضباط وفقدان المبادرة.

خسارة الداخل والخارج

التحقيقات الميدانية تشير إلى أن البرهان اليوم يقف في نقطة حرجة:
فهو فقد ثقة الإسلاميين في الداخل، ولم يعد يحظى بالدعم الكامل من حلفائه الإقليميين في الخارج.
وبينما يحاول الظهور كرجل الدولة الذي يحارب الميليشيات دفاعًا عن وحدة السودان، يرى فيه خصومه مجرد قائدٍ يناور على حساب الجميع.
حتى داخل الجيش، بدأت تتنامى أصواتٌ تشكك في استراتيجيته العسكرية، وتعتبر أن التناقضات السياسية انعكست مباشرة على أداء القوات في الميدان.

خاتمة: عزلة القائد

مع كل المؤشرات التي تراكمت خلال الأشهر الماضية، يبدو أن البرهان يسير نحو عزلةٍ سياسية وعسكرية غير مسبوقة.
تحالفه مع الحركة الإسلامية الذي كان في البداية مصدر قوة، تحول اليوم إلى عبءٍ ثقيلٍ يهدد استقرار قيادته.
أما الإسلاميون، الذين حلموا بالعودة إلى السلطة من بوابة الجيش، فقد وجدوا أنفسهم أمام واقع جديد: قائد لا يثق بهم، وخارجٌ لا يقبل بهم، وجيشٌ لم يعد يعكس طموحاتهم.

هكذا، من دعمٍ إلى ارتياب، تتكشف فصول انهيار التحالف بين البرهان والحركة الإسلامية، لتبدأ مرحلة جديدة من إعادة الاصطفاف في السودان، عنوانها الأبرز: البرهان بلا حلفاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى