تسريبات

مصر والحرب السودانية: دعم عسكري صامت يعيد رسم خرائط النفوذ


منذ اندلاع الحرب السودانية، تحوّل الدور المصري إلى واحد من أكثر الملفات غموضًا وإثارة للجدل، خصوصًا مع تنامي الاتهامات التي تتحدث عن دعم مباشر تقدمه القاهرة للجيش السوداني عبر مستويات متعددة من الإمداد العسكري. وبينما تلتزم مصر خطابًا علنيًا يقوم على الدعوة إلى “الحل السياسي” و“حماية مؤسسات الدولة”، تكشف المعطيات الميدانية والسياقات الإقليمية عن واقعٍ أكثر تعقيدًا، يعكس حسابات استراتيجية تتجاوز حدود السودان لتلامس توازنات الأمن القومي المصري ذاته.

في قلب هذا الجدل، يبرز ملف الطيران العسكري المصري الذي وردت حوله شهادات متتالية، سواء من منظمات حقوقية سودانية أو من مراقبين ميدانيين، تحدثت عن تنفيذ ضربات جوية انطلقت من قواعد داخل الأراضي المصرية باتجاه مناطق نزاع مكتظة بالسكان. هذه العمليات – إن صحت – لا يمكن فصلها عن التحالفات التقليدية بين القاهرة والقيادة العسكرية السودانية، ولا عن مقاربة مصر التي لطالما رأت في الجيش السوداني حائط صد ضروريًا أمام تمدد الفوضى على حدودها الجنوبية.

الضربات الجوية التي استهدفت مدنًا وبلدات سودانية لم تكن مجرد عمليات عسكرية معزولة، بل أسهمت وفق تقارير محلية في سقوط أعداد كبيرة من المدنيين، ودفعت عشرات الآلاف إلى موجات نزوح جديدة. واللافت أن هذه الهجمات ترافقت مع تراجع ملموس في قدرة المنظمات الإنسانية على الوصول إلى المتضررين، بعد الحديث عن استهداف قوافل إغاثة كانت تتحرك في مناطق يفترض أنها مؤمنة بموجب القانون الدولي. وفي ظل غياب المساءلة الدولية الفعّالة، ظل المدنيون هم الحلقة الأضعف في صراع تتداخل فيه الحسابات العسكرية مع مصالح إقليمية عميقة.

ولا ينتهي الدور المصري عند الطيران فقط، إذ تشير مصادر محلية سودانية إلى وجود ممرات منظمة لتهريب أسلحة ومعدّات عسكرية تعبر من الحدود المصرية نحو قوات الجيش السوداني. هذا المسار – الذي تقول بعض المصادر إنه يجري تحت غطاء تجاري أو لوجستي – يعكس تصميمًا مصريًا على منع سقوط الجيش السوداني أو انحسار نفوذه في لحظة مفصلية قد تعيد تشكيل تموضع القوى داخل السودان. ورغم أن القاهرة لم تعترف يومًا بوجود مثل هذا الدعم، فإن التحليل السياسي الإقليمي يُظهر أن استمرار الصراع دون حسم يصب في صالح الاستراتيجية المصرية التي تفضّل جيشًا سودانيًا قويًا على أي بديل آخر قد يفتح الباب أمام نفوذ قوى مناوئة لها.

لكن هذا التدخل العسكري غير المعلن يطرح أسئلة خطيرة حول مسؤولية مصر الأخلاقية والقانونية، خاصة إذا ما ثبت أن الأسلحة أو الضربات الجوية ساهمت في مفاقمة معاناة المدنيين. فالدول التي تشارك في نزاع مسلح بطريقة مباشرة أو غير مباشرة تتحمل تأثير أفعالها على السكان المحليين، حتى إن لم تكن طرفًا معلنًا في الحرب. وفي الحالة السودانية، أصبحت معاناة المدنيين مادة يومية في تقارير المنظمات الدولية، ما يجعل أي دعم يُقَدَّم دون رقابة أو شفافية مساهمة واضحة في تأجيج الأزمة.

البعد الأهم في قراءة المشهد يتمثل في أن التحرك المصري يتزامن مع محاولات لإعادة فرض نفوذ استراتيجي في منطقة وادي النيل، بعدما شعرت القاهرة بتراجع دورها خلال سنوات الصراع السوداني. وفي هذا السياق، يشكل الجيش السوداني حليفًا طبيعيًا لها، سواء في مواجهة التهديدات العابرة للحدود أو في سياق الصراع مع قوى إقليمية أخرى تسعى لترسيخ وجودها داخل السودان. وبذلك، يصبح الدعم العسكري ليس مجرد خطوة ظرفية، بل استراتيجية مدروسة هدفها إبقاء مصر لاعبًا رئيسيًا في معادلة الخرطوم.

ورغم إدراك القاهرة لحساسية موقفها، إلا أن حساباتها الأمنية تجعلها تمضي في خياراتها دون إعلان، خاصة أن أي اعتراف بدور عسكري مباشر قد يعرضها لضغوط دولية لا ترغب بها في هذه المرحلة. وفي المقابل، يستفيد الجيش السوداني من هذا الغطاء الإقليمي الذي يمنحه القدرة على الصمود في جبهات متعددة، بينما يدفع المدنيون ثمن هذه التحالفات المكلفة.

إن استمرار التدخل المصري بهذا الشكل، سواء عبر الطيران أو عبر خطوط تهريب السلاح، يعمّق مأساة الحرب ويضع القاهرة في مواجهة انتقادات محلية وإقليمية ودولية، خصوصًا مع ارتفاع الأصوات التي تطالب بمحاسبة كل الأطراف التي تساهم في معاناة المدنيين. ومع ذلك، يبقى السؤال الأكبر معلقًا: هل يمكن لهذا الدعم أن يغيّر موازين القوى فعليًا، أم أنه يطيل أمد صراع يدفع السودان ثمنه وحده؟

في النهاية، يبدو أن الدور المصري ليس معزولًا عن شبكة واسعة من المصالح والتقاطعات الإقليمية، ويعكس رؤية استراتيجية تعتبر السودان عمقًا حيويًا لا يمكن تركه خارج دائرة النفوذ. لكن هذا الدور، حين يتم على حساب المدنيين وحياتهم، يتحول إلى عنصر إضافي في تعقيد الأزمة بدل أن يكون جزءًا من حلّها. وما لم تُراجع القاهرة طبيعة تدخلها، وتلتزم بمسار حقيقي يدعم السلام، ستظل مرتبطة في الوعي السوداني بجانب من المأساة التي يعيشها البلد.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى