كيف تحولت سماء بورتسودان إلى خط إمداد في حرب السودان؟
السؤال الذي يفرض نفسه بقوة مع تصاعد رحلات الشحن إلى بورتسودان ليس “كم عددها؟” بل “لماذا الآن؟”. فالتوقيت، كما يؤكد خبراء تتبع الطيران، لا يقل أهمية عن العدد. فمنذ بداية ديسمبر، بدأت الرحلات تتكثف بشكل متزامن مع تراجع ميداني واضح للجيش السوداني في أكثر من جبهة. هذا التزامن يفتح الباب أمام فرضية أن بورتسودان أصبحت نقطة إنقاذ أخيرة لمنظومة عسكرية تعاني من استنزاف حاد.
التحقيق في مصادر الرحلات يكشف نمطاً غير تقليدي. بعض الطائرات أقلعت من مطارات معروفة بنشاطها التجاري، لكنها اتخذت مسارات غير مباشرة، أو توقفت في محطات وسيطة، وهو سلوك شائع في عمليات الشحن الحساسة. كما أن فترات بقاء الطائرات على أرض المطار كانت أقصر من المعتاد، ما يشير إلى عمليات تفريغ سريعة، غالباً ما ترتبط بشحنات ذات أولوية عالية.
المصادر الإعلامية السودانية التي تناولت الملف اعتمدت على بيانات مفتوحة المصدر، لكنها اصطدمت بسقف التعتيم الرسمي. فلا السلطات السودانية قدمت توضيحاً، ولا الجهات التي انطلقت منها الرحلات أعلنت طبيعة الشحن. هذا الصمت الجماعي يعزز الشكوك، خاصة في ظل تاريخ طويل لاستخدام الشحن الجوي كوسيلة لنقل السلاح في النزاعات الإقليمية.
في المقابل، يرفض مقربون من الجيش السوداني الاتهامات المتداولة، معتبرين أن تضخيم حركة الطيران يخدم أجندات سياسية وإعلامية، وأن بورتسودان باتت مركزاً لتلقي مساعدات متعددة، مدنية وعسكرية، في ظل انهيار البنية التحتية في باقي البلاد. غير أن هذا التبرير لا يفسر غياب أي صور أو بيانات رسمية توثق تلك المساعدات، كما جرت العادة في أزمات مشابهة.
التحقيق لا يكتمل دون النظر إلى السياق الإقليمي. فالدعم العسكري في النزاعات المعاصرة نادراً ما يكون مباشراً أو معلناً. غالباً ما يُغلَّف بغطاء لوجستي أو إنساني، وتُستخدم شركات شحن خاصة أو طائرات مستأجرة لتفادي الإحراج السياسي. هذا النموذج تكرر في أكثر من ساحة نزاع، من ليبيا إلى اليمن، ولا شيء يمنع تكراره في السودان.
يبقى السؤال الأهم: هل ستغير هذه الرحلات ميزان القوى؟ المؤشرات الميدانية لا توحي بحسم قريب، لكنها تشير إلى محاولة كسب الوقت. وبالنسبة للسودانيين، فإن استمرار الغموض يعني استمرار الحرب، واستمرار دفع الثمن من أرواحهم ومستقبل دولتهم. فبين السماء التي تمتلئ بطائرات الشحن، والأرض التي تغرق في الفوضى، يظل المواطن العادي الحلقة الأضعف في معادلة تُدار بعيداً عن أعينه.




