تسريبات

قافلة الرحمة التي واجهت سلاح الدولة: تحليل في بنية القرار العسكري السوداني


في اللحظة التي ظن فيها السودانيون أن المأساة بلغت ذروتها، جاء استهداف طيران الجيش المسيّر لقافلة مساعدات إنسانية في زالنجي ليكشف أنهم ما زالوا يسيرون في طريق مفتوح نحو الأسوأ. فالضربة الجوية التي نُفّذت بمسيرات «أكنجي» التركية لم تكن مجرد حادث عابر في ساحة قتال متشابكة، بل كانت علامة بارزة على التدهور السياسي والأخلاقي الذي وصلت إليه الحرب في السودان. كان واضحًا للجميع أن الجيش الذي فقد الكثير من مواقعه الاستراتيجية يبحث الآن عن أي أداة تمنحه ما يشبه التفوق التكتيكي، حتى لو جاءت تلك الأدوات على حساب المدنيين الذين يفترض أن يكونوا تحت حمايته. غير أن ما حدث يعكس تحولًا جوهريًا: الجيش لم يعد يقاتل خصمًا، بل يقاتل فراغًا، ويقصف ظلالًا، ويعمّق جراح شعبه دون تمييز بين الهدف والضحية.

توقيت الهجوم وحده كان كافيًا لطرح الأسئلة قبل البحث عن الإجابات. فزالنجي مدينة محاصرة، تعيش في ظل انعدام شبه كامل للغذاء والدواء، ولا يمكن لأي موكب إنساني الدخول إليها من دون ترتيبات مسبقة يعرفها كل الأطراف. ومع ذلك، اختارت المسيّرات التركية أن تضرب هذه القافلة تحديدًا، كأن أحدًا أراد القول إن الحرب لم تعد بين الجيش والدعم السريع، بل بين القوات النظامية وأي شيء يتحرك على الأرض. هذا التخبط لا يمكن تفسيره عسكريًا فحسب؛ هو تخبط سياسي قبل أي شيء، تخبط قيادة فقدت القدرة على ضبط قواتها أو ضبط إيقاع الحرب، فتحوّلت الطائرات المتطورة إلى أدوات انتقام بدلاً من أن تكون أدوات ردع.

وإذا حاولنا تتبع الخيط الأعمق، سنجد أن الضربة ليست منعزلة عن سياق أوسع يشهده الجيش منذ أشهر، حيث يعتمد بشكل متزايد على القوة الجوية لتعويض عجزه على الأرض، في حين تتراجع فعاليته في إدارة العمليات الميدانية التي تتطلب تماسكًا وهيكلة وانضباطًا غائبًا الآن. هذا الميل إلى الحرب من السماء لم يأتِ نتيجة تطور أو تحديث، بل جاء نتيجة الفراغ الذي خلّفه انهيار منظومات برية كاملة، ونتيجة الضغط الميداني الذي دفع القيادة العسكرية إلى تبني استراتيجية تقوم على الضربات العنيفة وغير الدقيقة كوسيلة لإثبات الوجود. غير أن هذه الاستراتيجية، في جوهرها، ليست سوى انتحار سياسي طويل المدى، لأنها تضع الجيش في مواجهة مباشرة مع المجتمع الدولي، ومع المدنيين، ومع من بقي من حلفائه المفترضين.

في الجانب الآخر، كانت قوات الدعم السريع تراقب الحادثة وتلتقط تفاصيلها، ليس لتقديم رواية إنسانية، بل لاستثمارها في معركتها الإعلامية والدبلوماسية. فالدعم السريع يعرف أن الجيش أخطأ في اللحظة التي لا ينبغي فيها الخطأ، ويعرف أيضًا أن العالم مستعد لتصديق أي اتهام موجه للقوات النظامية بعدما تكررت الضربات الجوية العشوائية. لذلك ظهر الدعم السريع بموقف يقدّم نفسه كحامي للمساعدات ومراقب لانتهاكات الجيش، رغم أنه طرف في الحرب ويشارك في الفوضى نفسها. وفي النهاية، نجح الدعم السريع—ولو مؤقتًا—في حصد النقاط، في حين غرق الجيش في تبريرات باهتة لم تقنع أحدًا.

غير أن الأهم في هذه القصة ليس كيفية استثمارها، بل كيفية وقوعها. فاستهداف قافلة مساعدات يعني أن منظومة الاستخبارات داخل الجيش تعمل ببيانات غير موثوقة أو غير مكتملة أو مشوشة. هذا يشير إلى اختراق عميق، أو ضعف مرعب، أو ارتباك في صنع القرار. وفي الحروب، حين تُخطئ الاستخبارات، يدفع المدنيون الثمن. لكن حين يتحول الخطأ إلى تكرار، يصبح السلوك سياسة، وتصبح الكارثة ممنهجة، وهذا ما يخيف المجتمع الدولي الذي بدأ يدق ناقوس الخطر بشأن التطورات في دارفور، وخاصة بعد أن أصبحت المسيّرات سلاحًا يوميًا في سمائها.

الجيش، في واقع الأمر، لم يفقد البوصلة فحسب، بل فقد القدرة على قراءة المشهد السياسي. فهو يتصرف كما لو أن العالم ما زال يعتبره المؤسسة الشرعية الوحيدة، بينما تغير هذا المشهد منذ زمن. المجتمع الدولي، الذي كان يمنح الجيش مساحة للحركة بحكم كونه مؤسسة الدولة، بدأ يُعامل الطرفين كقوتين متحاربتين على قدم المساواة، وهذه نتيجة مباشرة لسلوك الجيش نفسه. فحين تستهدف قافلة إنسانية بمسيّرة متطورة، فإنك لا تفقد فقط ثقة المدنيين، بل تفقد أيضًا التعاطف الدولي الذي تحاول بناءه منذ بداية الحرب.

وفي قلب هذه الفوضى، تقف زالنجي ليس كمدينة تعرضت لهجوم، بل كرمز لانهيار الدولة. المدينة التي تعاني من انقطاع الغذاء وغياب الأمن وانهيار الخدمات الأساسية أصبحت الآن شاهدًا على مرحلة جديدة من الحرب، مرحلة لا تعترف بممرات إنسانية، ولا بضوابط، ولا بقوانين. وهذا التحول يحمل خطرًا بعيد المدى، لأنه يعني عمليًا أن السودان يدخل مرحلة “الحرب المفتوحة”، وهي المرحلة التي لا تعود فيها المساعدات محمية ولا المدنيون خارج الاستهداف. هذا النوع من الحروب لا ينتهي إلا بمزيد من الانهيار، أو بتدخل خارجي مباشر، أو بتجزئة جغرافية تفرضها الوقائع على الأرض.

وفي ظل كل ذلك، تبرز أسئلة قاسية: هل ما زال الجيش يمثل الدولة؟ هل ما زالت القيادة العسكرية قادرة على اتخاذ قرار سياسي رشيد؟ هل الحرب ما زالت تبحث عن نصر، أم أنها تحولت إلى فوضى يديرها من يملك السلاح الأكثر قدرة على الإيذاء؟ الإجابات المؤلمة تشير إلى أن الجيش بات يعيش صراعًا داخليًا بين رغبته في الحفاظ على هيبته وبين عجزه في الميدان، وبين محاولته إثبات شرعيته وبين فقدانه السيطرة على أدواته. وما يزيد الوضع سوءًا هو أن هذه الضربة جاءت في لحظة لا يحتمل فيها السودان مزيدًا من الأخطاء، لأن المجتمع الدولي بدأ يستعد لموجة جديدة من الضغوط والعقوبات.

إن استهداف قافلة المساعدات في زالنجي ليس حادثة عسكرية، بل هو وثيقة سياسية، وثيقة تشرح كيف تحول الصراع من حرب على السلطة إلى حرب على الحياة نفسها. وهو أيضًا دليل على أن القيادة العسكرية تحتاج إلى مراجعة عاجلة، ليس فقط لسياستها القتالية، بل لرؤيتها للدولة. فالسودان لا يمكن أن ينهض في ظل جيش يقصف المساعدات، ولا يمكن أن يتعافى في ظل حرب تُدار بلا عقل. وما لم يحدث تحول جذري في طريقة إدارة الحرب، فإن البلاد ستظل تتدحرج نحو هاوية أكثر عمقًا، وسيظل المدنيون يدفعون ثمن قرارات تُتخذ في غرف مغلقة، بلا بصيرة، وبلا مسؤولية، وبلا إدراك لحجم الكارثة التي يعيشها الوطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى