تنسيق سري بين السودان وإثيوبيا حول سد النهضة… هل تدير الخرطوم ظهرها للقاهرة؟

في تطور جديد يعكس تحولات لافتة في موازين العلاقات داخل القرن الإفريقي، كشفت مصادر سياسية وإقليمية عن تنسيق غير معلن بين رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان، ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، يتناول ملفات حساسة تتعلق بسد النهضة والعلاقات الحدودية، بعيداً عن أعين القاهرة. هذا المسار، الذي وصفه دبلوماسي مصري سابق بأنه “طعنة في الظهر”، يفتح الباب أمام تساؤلات عديدة حول طبيعة الدور الذي يلعبه السودان في المرحلة المقبلة، وحدود الانفصال التدريجي بينه وبين الحليف المصري التاريخي.
محاور اللقاءات السرية: من سد النهضة إلى الحرب السودانية
تشير المعلومات المتداولة إلى أن اللقاءات الأخيرة بين ممثلين عن الجيش السوداني ومسؤولين إثيوبيين لم تقتصر على النقاش حول تقاسم مياه النيل أو الموقف من سد النهضة، بل امتدت إلى قضايا أمنية وسياسية داخل السودان نفسه. فقد تناولت المباحثات، وفقاً للتسريبات، إمكانية إطلاق مسار تفاوضي جديد بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، لكن هذه المرة بوساطة إثيوبية مباشرة، في خطوة تعد انقلاباً على الدور المصري الذي سعى طويلاً للعب دور الوسيط بين الأطراف المتصارعة في الخرطوم.
ويرى مراقبون أن هذا التطور يعكس محاولة من البرهان لإعادة التموضع الإقليمي عبر فتح قنوات بديلة عن المحور المصري الخليجي الذي ظل مظلته السياسية والدبلوماسية منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023. فالرجل، بحسب مصادر مطلعة، بات يعتبر أن القاهرة تتعامل معه كأداة سياسية مؤقتة لا كشريك حقيقي، وأن استمرار الاعتماد على مصر في إدارة الملف السوداني لم يعد يخدم مصالحه ولا موقعه الداخلي.
برهان يبحث عن هامش استقلال… وآبي أحمد يستثمر اللحظة
تؤكد المعطيات المتوفرة أن البرهان يسعى إلى فك الارتباط التدريجي عن مصر، في ظل شعور متزايد بأن العلاقات بين البلدين فقدت توازنها الطبيعي، وأن القاهرة باتت تملي على الخرطوم توجهاتها أكثر مما تتشاور معها. ويبدو أن التحولات الجارية داخل النظام المصري، والضغوط الاقتصادية الهائلة التي تمر بها القاهرة، شجعت القيادة السودانية على اختبار خيارات جديدة أكثر استقلالاً.
وفي المقابل، يتحرك آبي أحمد بدهاء سياسي واضح، مستغلاً هذا التباعد بين الخرطوم والقاهرة لتقوية موقفه في ملف سد النهضة، الذي يشكل بالنسبة له مشروعاً وجودياً ورمزاً للنهضة الوطنية الإثيوبية. فإعادة السودان إلى موقع أقرب إلى أديس أبابا، بعد سنوات من التوتر والاصطفاف إلى جانب مصر، تمثل مكسباً استراتيجياً له، يخفف الضغط الدولي والإقليمي الذي تواجهه إثيوبيا في المفاوضات المائية.
وبحسب المصادر نفسها، عرض آبي أحمد على البرهان رزمة من الحوافز الأمنية والاقتصادية، تشمل تسهيلات لوجستية عبر الحدود في القضارف والقلابات، ودعم جهود الجيش في مواجهة قوات الدعم السريع، مقابل تبني موقف أكثر مرونة حيال سد النهضة، أو على الأقل التزام الصمت وعدم الانحياز إلى الموقف المصري في المحافل الإقليمية.
التعاون الحدودي غطاء للمصالح الأمنية
تضيف التسريبات أن التنسيق بين البلدين تجاوز القضايا المائية ليشمل ترتيبات مشتركة لضبط الحدود وتبادل المعلومات الأمنية تحت غطاء ما يسمى بـ”التعاون المائي الحدودي”. هذه الخطوة، وإن بدت فنية في ظاهرها، تحمل في جوهرها بعداً استخباراتياً واضحاً، إذ تسعى أديس أبابا والخرطوم إلى تحييد النشاطات المسلحة في المناطق الحدودية، وضمان عدم تسلل جماعات معارضة أو ميليشيات بين الطرفين.
ويرى خبراء أن هذا التعاون الأمني يخدم بالدرجة الأولى الجيش السوداني، الذي يعاني من ضغط ميداني متزايد في ولايات دارفور والخرطوم والجزيرة، بينما يمنح إثيوبيا نافذة للتأثير في الداخل السوداني وإعادة رسم خريطة التوازنات السياسية لصالحها.
قلق مصري متصاعد… واتهامات بالخذلان
في القاهرة، لم تمر هذه التحركات مرور الكرام. فقد أعربت مصادر دبلوماسية مصرية عن قلقها من هذا “المسار الانفرادي” الذي ينتهجه البرهان، معتبرة أنه يمثل تراجعاً خطيراً عن التنسيق التاريخي بين البلدين في مواجهة التحدي الإثيوبي. كما وصفت بعض الأوساط المقربة من وزارة الخارجية المصرية الخطوة بأنها “طعنة في الظهر”، خصوصاً أن القاهرة كانت من أبرز الداعمين للبرهان سياسياً وإعلامياً منذ بداية الحرب.
ويرى محللون مصريون أن فقدان السودان كحليف أساسي في ملف سد النهضة سيؤدي إلى إضعاف الموقف التفاوضي المصري، لأن القاهرة كانت تعتمد على الخرطوم لتشكيل جبهة ضغط مشتركة على أديس أبابا. ومع تحول السودان إلى موقف أكثر حياداً، أو حتى متعاطف مع إثيوبيا، تصبح القاهرة في مواجهة مباشرة مع أديس أبابا من دون سند إقليمي فعّال.
الخرطوم بين توازن المصالح وضغوط البقاء
في المقابل، يبرر بعض المقربين من مجلس السيادة السوداني هذا التقارب بأنه ضرورة فرضتها تعقيدات الواقع الداخلي والحسابات الإقليمية. فالسودان، الغارق في حرب مدمرة منذ أكثر من عامين، يبحث عن أي نافذة تخفف عزلته الدولية وتوفر له دعماً لوجستياً واقتصادياً. ومن هذا المنظور، تبدو إثيوبيا شريكاً عملياً أكثر من مصر، التي لم تقدم – بحسب هؤلاء – سوى بيانات سياسية، دون التزام ملموس على الأرض.
لكن هذا النهج محفوف بالمخاطر، إذ أن المراهنة على إثيوبيا في ملف سد النهضة قد تُفقد الخرطوم توازنها بين القوى الإقليمية، وتجعلها طرفاً تابعاً لمصالح أديس أبابا لا شريكاً متكافئاً. كما أن استبعاد القاهرة من المشهد قد يترتب عليه تجميد التعاون في ملفات حيوية مثل الأمن المائي، ومكافحة الإرهاب، وضبط الحدود الغربية للسودان.
تحولات عميقة في موازين التحالفات
يبدو أن ما يجري اليوم بين الخرطوم وأديس أبابا ليس مجرد تقارب عابر، بل مؤشر على إعادة رسم خريطة التحالفات في شرق إفريقيا. فالسودان يسعى إلى الإفلات من وصاية مصرية دامت لعقود، فيما تعمل إثيوبيا على تحويل أزمتها مع مصر إلى فرصة لتوسيع نفوذها الإقليمي. وبينما تنشغل القاهرة بإعادة ترتيب بيتها الداخلي، يبدو أن خصومها في الجوار يتحركون بسرعة لتغيير قواعد اللعبة.
وفي ظل استمرار الحرب السودانية وتعثر المفاوضات حول سد النهضة، فإن هذا التنسيق السري قد يكون بداية لتغيرات أعمق في توازنات القوى في وادي النيل، حيث لم تعد القاهرة اللاعب الوحيد القادر على التأثير، بل أصبحت واحدة من أطراف عدة تتنافس على النفوذ في منطقة تعيد تشكيل نفسها بهدوء… وبعيداً عن الأضواء.
