تركيا تطبطب وتخنق.. السودان بين كماشة الدعم والتبعية

اعتمدت الدول قديما في سياستها على الدبلوماسية كإحدى أدواتها للنأي بشعوبها عن الصراعات والحروب. واليوم باتت تستخدم الدبلوماسية الحديثة في إشعال الحروب والصراعات بطرف خفي تاركةً خلفها أسئلة دون إجابات وشعوباً دون أوطان وأطماعاً دون تحديد المقاصد منها. هكذا هي الدبلوماسية التركية تتحرك في خفاء خلف أطماعها في نفوذ سياسي أوسع، ساعية إلى إعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية القديمة. فتواجد التركي في القارة الإفريقية يكشف رغبة أنقرة في تكوين قوة مؤثرة ومتحكمة في مسار الأحداث السياسية.
ففي السودان تضرب تركيا بيد وتطبطب بالأخرى. إذ الوقت الذي تظهر فيها بمظهر الداعية إلى السلام ومحاولة إنهاء الحرب الأهلية بين الأطراف المتنازعة، إلا أنها خلف الكواليس تزكي الحرب وتشعلها بالانحياز لطرف على حساب الآخر ومده بالسلاح، ضاربة بالمواثيق الدولية عرض الحائط؛ مما يساعد على إطالة أمد الحرب. نحاول في هذه المقال استعراض الموقف التركي من أزمة السودان ودوره في فيما آلت إليه الأوضاع.
-
زيارة غير معلنة للبرهان إلى تركيا تثير التساؤلات حول عودة الإسلاميين
-
أسرار زيارة البرهان إلى تركيا: اتفاقات سرية أم ترتيبات سياسية؟
السلاح التركي في السودان
أجرى رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني، القائد العام للقوات المسلحة السودانية والزعيم الفعلي للمجلس العسكري الحاكم، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، محادثات مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ضمن فعاليات منتدى أنطاليا الدبلوماسي بنسخته الرابعة؛ الذي انطلقت أعماله بمدينة أنطاليا التركية السبت الفائت، تحت شعار “استعادة الدبلوماسية في عالم منقسم”.
جرى خلال اللقاء استعراض العلاقات الثنائية بين البلدين والسبل الكفيلة بدعمها وتعزيزها، إضافة إلى استعراض مجالات التعاون المشترك على مختلف الأصعدة وسبل تطويرها لما فيه خير الشعبين. وأعرب البرهان عن تقديره لمواقف تركيا الداعمة للسودان في المحافل الإقليمية والدولية والحفاظ على سيادته ووحدة أراضيه ودعمها المستمر للشعب السوداني وتقديم المساعدات الإنسانية له خلال الأزمة السودانية.
-
السودان في مرمى النفوذ الإقليمي.. كيف تؤثر تركيا وإيران وقطر على المشهد العسكري؟
-
يد تركيا الخفية في حرب السودان: كيف تُسلّح أنقرة جيش البرهان؟
إلا أن صحيفة واشنطن بوست كان لها رأياً آخر في الدور التركي في الحرب السودانية الأهلية، الذي جاء خاليا من أي من القيم ومستعد لتجاهل العقوبات التي تهدف إلى ردع استمرار إراقة الدماء. فقد كشفت تقارير “لواشنطن بوست” في آذار/مارس الفائت عن تورط تركيا في إدخال السلاح إلى الأراضي السودانية. فقد جاء وفقاً لتقرير الصحفية قيام شركة “بايكار”، وهي شركة تركية رائدة في تصنيع الأسلحة يملكها صهر الرئيس رجب طيب أردوغان، سلجوق بايراكتار، ببيع أسلحة هجومية إلى نظام الصناعات الدفاعية السوداني (DIS)، وهو وكالة المشتريات العسكرية السودانية. وبهذا فإن شحنات “بايكار” إلى القوات المسلحة السودانية تنتهك العقوبات الأمريكية والأوروبية.
وفي تعليق المحلل السياسي هشام النجار في حديثه مع “الحل نت” على مسألة وصول السلاح التركي للسودان وهذا على عكس الدور المعلن عنه لتركيا فقال:” تركيا تضررت كثيرا من الثورة ضد نظام البشير ومن مصلحتها استعادة الإسلاميين للسلطة لمواصلة ما بدأته مع نظام البشير، ولذلك فهي تتماهى مع مخطط الإخوان للانقلاب على الثورة وعدم تمكين المدنيين الذي نتجت عنه الحرب الدائرة بكل حمولاتها وخلفياتها وتسليحها والدفع باتجاه استمرارها لحين إعادة الإخوان للسلطة والالتفاف على مكتسبات ومطالب الثورة”.
-
محلل سياسي: التقارب مع تركيا قد يؤدي إلى تداعيات خطيرة على السودان
-
الدول الداعمة للجيش السوداني: دور تركيا وإيران في الصراع السوداني
أنقرة انحياز ….لا وساطة!
ليس سراً أن أردوغان عمل على توسيع العلاقات العسكرية والدبلوماسية التركية في منطقة القرن الأفريقي. بالنسبة لتركيا، تكمن مصلحتها في الترويج لنفسها كقوة عظمى. ففي الوقت الذي تتأرجح السودان على شفا حرب أهلية طويلة الأمد، يُبرز انخراط تركيا في السودان طموحها لتوسيع نفوذها في شرق أفريقيا ومنطقة البحر الأحمر.
في البداية، سعت تركيا إلى التوسط بين الفصائل السودانية المتحاربة. فقد قدم أردوغان مبادرات لإنهاء الصراع في السودان من خلال محاولة تعزيز الحوار بين كلٍّ من الفريق أول برهان وقائد “قوات الدعم السريع”، محمد حمدان دقلو (المعروف بحميدتي)، إلا أنه وبشكل صريح لا يمكن الوثوق في أردوغان ومحاولته الظاهرية.
-
المخاطر الجيوسياسية للتقارب بين الجيش السوداني وإيران وتركيا: تداعيات على الاستقرار الداخلي والإقليمي
-
الأزمة السودانية تزداد تعقيدًا: كيف تؤثر تركيا على المشهد؟
فقد لعب أردوغان على طرفي نقيض في الصراع الأوكراني. فمن جهة، يتظاهر بالوفاء بمسؤوليات تركيا كعضو في حلف الناتو، بإغلاق المضائق التركية أمام السفن الروسية. ومن جهة أخرى، سمح للنظام المصرفي التركي بتمرير أموال روسية غير مشروعة تابعة لأثرياء بوتين، وسمح للشركات التركية ببيع سلع ذات استخدام مزدوج للجيش الروسي، مقدماً بذلك دعمًا حيويًا لجهود بوتين الحربية غير القانونية. هو ذاته موقفه تجاه الصراع في السودان فبعد الدعوات إلى الحوار بين أطراف الصراع، والدعوة إلى التفاهم بين القوات السودانية والامارات العربية المتحدة باعتبار أن الاخيرة تدعم “قوات الدعم السريع”، وفجأة ودون مقدمات حصل البرهان لاحقاً على دعم الحكومة التركية، وعقدا اجتماعاً مغلقًا في نيويورك بعد عام واحد في عام 2024.
ونشر السفير التركي لدى السودان، فاتح يلديز، على مواقع التواصل الاجتماعي مشاركته في الاحتفالات بانتصار القوات المسلحة السودانية، مما يشير إلى انحياز أنقرة الواضح لقوات الفريق برهان. وهذا ويتماشى تدخل تركيا في السودان مع استراتيجيتها الإقليمية القديمة، كما يتضح من تدخلاتها في ليبيا وإثيوبيا وسوريا.
-
تحت غطاء المساعدات.. تركيا تقدم مسيراتها واسلحتها الى الجيش السوداني التي يستعملها في قتل المدنيين
-
استحواذ البرهان على قصر فخم في تركيا
في عام 2019، نجح التدخل العسكري التركي لصالح الحكومة الليبية المتمركزة في طرابلس في وقف هجوم خليفة حفتر. وبالمثل، مكّنت مبيعات الطائرات المسيرة المسلحة التي قدمتها تركيا لإثيوبيا خلال صراعها مع متمردي تيغراي رئيس الوزراء آبي أحمد من استعادة السيطرة.
فالانحياز لطرف على حساب الآخر لا يعني إلا تفاقم معاناة المدنيين، وزيادة الخسائر البشرية بشكل كبير، وتدهور الاستقرار الإقليمي بشكل أكبر وهذا الذي ما لم تقم له تركيا وزناً. حتى أن النجار يري أن تركيا مستفيدة من الحرب في السودان قائلا :” بالمنطق وعبر تأمل تسلسل الأحداث يقول إن تركيا تضررت كثيرا من الثورة لأنها أنهت حكم نظام أقامت معه اتفاقيات جائرة كانت بموجبها تفرض وصايتها على طرف ضعيف لاستنزاف ثروات البلد الغني زراعيا والغني بالموارد وصاحب الموقع المتميز على البحر الأحمر وبدون شك فهي مستفيدة من الحرب التي حالت دون المضي في طريق التحول للديمقراطية وتهميش النظام القديم والتمكين للقوى المدنية”.
-
“تحالف الذهب” بين البرهان وتركيا: التداول السياسي والاقتصادي
-
تورط رجال أعمال سودانيين مقربين من البرهان في تهريب 7 طن ذهب إلى تركيا
أطماع تركيا الاستراتيجية
تركيا لا تنظر فقط إلى السودان كداعم سياسي فقط، بل كحليف اقتصادي ومركز استثماري مهم في منطقة القرن الإفريقي. تسعى تركيا إلى استثمار الموارد الطبيعية للسودان، مثل النفط والمعادن. بالإضافة إلى تعزيز حضورها التجاري في الأسواق السودانية. بالنظر إلى الوضع السياسي المتقلب في السودان، فإن تركيا ترى في تعزيز العلاقات الاقتصادية طريقًا لاستفادة متبادلة.
إذ يمكن للسودان أن يستفيد من الاستثمارات التركية في البنية التحتية والطاقة والزراعة. بينما تحقق تركيا نفوذًا سياسيًا واقتصاديًا متزايدًا في هذه المنطقة الاستراتيجية.
ويضيف النجار: “أطماع تركيا في السودان متصلة بمشروع مدّ النفوذ في المنطقة وفي إفريقيا على وجه الخصوص وتحديدا الساحات الاستراتيجية التي تشهد نشاطا وحضورا كثيفا لجماعات الإسلام السياسي خاصة الإخوان والقاعدة. والسودان كانت وما تزال مطمع لمشروع العثمانية الجديدة الذي لم يتوقف رغم فشل الإسلاميين وأفرع جماعة الإخوان التي هي أداة المشروع و وكلاؤه، وهو قائم على أطماع اقتصادية للاستفادة القصوى من موارد السودان ومحاصيله الزراعية وثروته المعدنية بأرخص الأسعار وأيضًا بالسطو على بعض موانئه الاستراتيجية واحتلالها بشكل مقنع مثل ميناء سواكن وظهرت هذه الأطماع بشكل واضح أثناء حكم جماعة الإخوان بزعامة البشير فقد كان هناك اتفاقيات عدت ظالمة وتعبر عن استعمار مقنع يستفيد من خلالها النظام التركي من المحاصيل والثروة ومن احتلال سواكن مقابل إضفاء الشرعية على حكم الإخوان المرفوض شعبيا”.
-
تهنئة الإخوان للجيش السوداني.. خطوة تكشف تدخل التنظيم في تأجيج الصراع
-
تحركات البرهان في أنقرة: هل يسعى لإعادة الإسلاميين إلى السلطة؟
من ناحية أخرى، يقدّر عدد الشركات العاملة بالسودان أكثر من مئة شركة من 15 جنسية. ويهدف النظام السوداني إلى زيادة عدد المستثمرين الأجانب، لإنعاش خزينته وجلب العملة الصعبة، التي يعاني نقصا حادّا منها، فمنذ انفصال الجنوب في 2011، يكافح اقتصاد السودان آخذا معه ثلاثة أرباع إنتاج البلاد من النفط، وتشكّل الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها السودان مدخلاً لدول مثل تركيا لزيادة استثماراتها في هذا البلد، بحوافز مغرية جدا، حيث يرى مراقبون أن أنقرة التي تطمح إلى تعزيز نفوذها الإقليمي والدولي، تتخذ من الاستثمار الاقتصادي والعمل الخيري مدخلين أساسيين للتغلغل في الدول، خاصة تلك التي تعاني أزمات.
-
السيطرة على القصر الجمهوري: هل هي بداية حسم المعركة في السودان؟
-
واشنطن بوست: تورط شركة أسلحة تركية في تأجيج حرب السودان بأدلة جديدة
وينهى النجار حديثه قائلا:” أرجح أن تكون تركيا تلعب دورا سلبيا من أجل استمرار الصراع بهدف منع التحول الديمقراطي وعدم اكتمال مسار تهميش الإخوان والإسلاميين وهو الذي حال دون استمرار الوصاية التركية على السودان”.
ففرض السيطرة على السودان من تركيا هو حلم تركي قديم ربما ترى أنقرة أنه حان الوقت لتحقيقه. فتركيا تريد أن تكون بوابة السودان نحو أوروبا على أن يكون السودان بوابة تركيا نحو إفريقيا هذا ما قاله فيما سبق المستشار الأول لرئيس الوزراء التركي عمر قورقماز. فلا مانع من فعل أي شيئ في سبيل تحويل الحلم لحقيقة يعيشها الجميع ويدفع ثمنها السودانيون بدمائهم.
-
جرائم حرب في السودان.. تقرير صادم لـ”هيومن رايتس ووتش” عن انتهاكات الميليشيات
-
اتهامات أميركية خطيرة.. هل استخدمت حكومة البرهان أسلحة كيماوية؟
