تسريبات

انقسام في الظل: كواليس غضب الإسلاميين من البرهان بعد سقوط الفاشر


لم يكن سقوط مدينة الفاشر بيد قوات الدعم السريع مجرد هزيمة عسكرية عابرة، بل مثّل لحظة مفصلية كشفت حجم الشرخ العميق بين الفريق عبد الفتاح البرهان والحركة الإسلامية التي كانت تُعد أحد أهم دعائم الجيش خلال الحرب.
ورغم محاولات الطرفين إخفاء التوتر المتصاعد، إلا أن التسريبات من داخل أروقة القيادة العسكرية والسياسية تؤكد أن العلاقة بين الجانبين تمرّ بأسوأ مراحلها منذ بداية الصراع.

بداية التصدّع

بحسب مصادر مقربة من دوائر صنع القرار، فإن الخلافات بين البرهان والإسلاميين تعود إلى ما قبل سقوط الفاشر بأسابيع، حين بدأ البرهان بإجراء تغييرات في هيكل القيادة الميدانية، شملت نقل وإبعاد عدد من الضباط المعروفين بانتمائهم للحركة الإسلامية.
هذه الخطوات، التي تمّت دون تشاور مع قيادات التيار الإسلامي داخل الجيش، أثارت استياءً واسعًا واعتُبرت إشارة إلى أن البرهان لم يعد يثق فيهم، وأنه يسعى لتقليص نفوذهم داخل المؤسسة العسكرية بعد أن استنفد دورهم في الحرب.

أحد الضباط السابقين الذين خدموا في ولاية شمال دارفور قال لمصدر صحفي إن “البرهان بات يرى أن الإسلاميين يشكلون عبئًا سياسيًا على صورته أمام الخارج، لذلك بدأ بتهميشهم تدريجيًا، رغم أنهم من وقفوا معه في أصعب مراحل الحرب”.

ارتباك ميداني في الفاشر

قبل سقوط الفاشر، كشفت تقارير ميدانية عن حالة ارتباك في صفوف القوة المشتركة التابعة للجيش، والتي كانت تضم مقاتلين من الحركات المسلحة وعناصر محسوبة على الحركة الإسلامية.
ووفقًا لمصادر عسكرية، فقد فشلت القيادة في تنسيق العمليات الدفاعية بين هذه الوحدات بسبب غياب الثقة، إذ رفض بعض القادة الإسلاميين تنفيذ أوامر ميدانية صدرت عن ضباط موالين للبرهان بشكل مباشر، معتبرين أنها تتجاوز التسلسل القيادي المعتاد.
هذه الفوضى التنظيمية كانت أحد الأسباب الرئيسية في انهيار الدفاعات وسقوط المدينة، حسب ما أكده أحد القادة المحليين في تصريح مقتضب، مضيفًا أن “الجيش لم يسقط في الفاشر بسبب ضعف القوة، بل بسبب انقسام القرار”.

الغضب داخل الحركة الإسلامية

سقوط الفاشر كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر العلاقة. فقد تصاعدت الأصوات داخل الحركة الإسلامية التي تطالب بمراجعة “التحالف الهش” مع البرهان، معتبرة أن الأخير استغلهم لتحقيق مكاسب سياسية ثم تخلّى عنهم عند أول فرصة.
اجتماع مغلق عقدته شخصيات بارزة من الحركة في الخرطوم نهاية الأسبوع الماضي – وفق تسريبات – شهد نقاشًا محتدمًا حول مستقبل العلاقة مع البرهان.
بعض القيادات دعت إلى سحب الدعم الميداني والسياسي عنه، ووصفت أداء القيادة العسكرية بأنه “خيانة لدماء المقاتلين الذين ضحّوا دفاعًا عن دولة لم تعد تمثلهم”.
في المقابل، فضّل جناح آخر التريّث وعدم القطيعة الكاملة، مبررًا أن “الظرف الحالي لا يحتمل انقسامًا إضافيًا داخل التيار الإسلامي”.

قرارات مثيرة للجدل

ما زاد من حدة الغضب بين الإسلاميين هو سلسلة قرارات صدرت عن البرهان في الأسابيع الأخيرة، أبرزها إبعاد ضباط مقرّبين من الحركة عن مواقع حساسة، وتجميد بعض أنشطتهم داخل مؤسسات الدولة.
كما تم تسريب معلومات عن نية القيادة العسكرية إعادة هيكلة القوات المشتركة بطريقة تُضعف حضور الإسلاميين فيها، وهو ما اعتبره بعض قادتهم محاولة لإقصائهم نهائيًا من المعادلة الميدانية.
تقول مصادر مطلعة إن هذه الخطوات دفعت عددًا من القيادات الميدانية المحسوبة على الإسلاميين إلى التفكير في الانسحاب من جبهات القتال، بينما بدأ آخرون بتشكيل مجموعات صغيرة تعمل بشكل منفصل عن القيادة العامة للجيش.

انشقاقات في صفوف الحركات المسلحة

الأزمة لم تقتصر على الإسلاميين وحدهم، بل امتدت إلى الحركات المسلحة التي شاركت في القوة المشتركة التابعة للجيش.
فقد أعلنت بعض الفصائل في دارفور رفضها الاستمرار تحت قيادة مركزية مرتبكة، بينما تحدّث قادة آخرون عن غياب التنسيق وانعدام الرؤية الموحدة بعد سقوط الفاشر.
هذا التفكك المتسارع يعكس حجم الأزمة البنيوية التي تعيشها المنظومة العسكرية، والتي لم تعد قادرة على ضبط التحالفات الداخلية بين التيارات الإسلامية والحركات المسلحة المختلفة.

بين البرهان وحلفائه.. فقدان الثقة الكامل

تُجمع المصادر على أن العلاقة بين البرهان والحركة الإسلامية وصلت إلى مستوى من الشك المتبادل يصعب تجاوزه.
الإسلاميون يعتقدون أن البرهان خان التزامات غير معلنة كان قد قطعها لهم في بداية الحرب، تتعلق بتمكينهم من مواقع سياسية واقتصادية في حال تحقق النصر. أما البرهان، فيرى أن الإسلاميين يطمحون إلى إعادة إنتاج نظام البشير تحت مظلة الجيش، وهو ما قد يعرّضه لعزلة دولية خانقة.
بهذا المنطق البراغماتي، أصبح كل طرف يستخدم الآخر لتغطية ضعفه: البرهان يحتاج الإسلاميين كمقاتلين وغطاء تعبوي، والإسلاميون يحتاجونه كواجهة شرعية لوجودهم داخل الدولة.

أصوات من الداخل تكشف المستور

في تصريحات خاصة لأحد الصحفيين المحليين، قال عضو سابق في “مجلس شورى الحركة الإسلامية” إن “الكثير من القواعد تشعر بأنها خُدعت. البرهان وعد بأن يفتح لهم المجال لاستعادة مواقعهم داخل الدولة، لكنه بعد أن استقر له الوضع جزئيًا بدأ بالتضييق عليهم”.
وأضاف المصدر أن هناك حالة احتقان واسعة بين الشباب الإسلاميين الذين يقاتلون في الجبهات، بعد أن علموا أن قياداتهم السياسية فقدت تأثيرها داخل القيادة العامة.
وتابع: “البرهان لا يريد الإسلاميين في السلطة، لكنه لا يستطيع الاستغناء عنهم في الحرب. هذه المعادلة المزدوجة خلقت أزمة ثقة غير مسبوقة”.

مستقبل التحالف المهدد بالانهيار

في ظل هذه الأجواء، يبدو مستقبل العلاقة بين البرهان والحركة الإسلامية غامضًا ومهددًا بالانفجار في أي لحظة.
فالإسلاميون يدرسون خيارات جديدة لتأمين وجودهم السياسي والعسكري بمعزل عن الجيش، بينما يحاول البرهان كسب الوقت عبر رسائل تهدئة وتصريحات مبهمة.
غير أن الواقع على الأرض يشير إلى أن التحالف بين الجانبين فقد مقومات الاستمرار، خصوصًا مع تفكك القوة المشتركة وتزايد الانشقاقات داخل صفوف الجيش والحركات الموالية له.

تكشف كواليس ما بعد سقوط الفاشر أن العلاقة بين البرهان والحركة الإسلامية لم تعد قائمة على الثقة أو الشراكة، بل على موازنة المصالح والمخاوف.
الحركة التي كانت تراهن على عودتها إلى المشهد من بوابة الجيش، اكتشفت أنها لم تكن سوى أداة مؤقتة في لعبة سياسية معقدة.
أما البرهان، الذي حاول الجمع بين دعم الإسلاميين ورضا الخارج، فيجد نفسه اليوم أمام تحالفٍ متصدّع من الداخل، لا يمكن إصلاحه بالتصريحات أو الوعود.
إنها معركة الثقة المفقودة، التي قد تكون مقدمة لتغيّر كبير في خريطة القوى داخل السودان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى