تسريبات

الفاشر على حافة الانفجار: عندما تتحول المساعدات إلى سلاح سياسي


منذ شهور طويلة، يحاول كل طرف في السودان أن يرسم روايته الخاصة حول الحرب الدائرة. الجيش يتحدث عن “معركة الدولة” والدعم السريع يرفع شعار “إصلاح السلطة”. لكن على الأرض، وتحديداً في مدينة الفاشر، تظهر صورة مغايرة: انهيار مؤسسات، تمدد قوة متمردة، ومجتمع دولي يتعامل ببراغماتية مع واقع جديد فرض نفسه بقوة السلاح والسياسة معاً.

الجيش السوداني: انهيار الهيبة

معلومات متقاطعة من مصادر عسكرية ومحلية تكشف أن الجيش فقد السيطرة على أكثر من نصف محيط الفاشر. خطوط الإمداد منقطعة، الطيران محدود الفاعلية، والقادة الميدانيون يفتقدون لتعليمات موحدة. بل إن بعض الوحدات انسحبت دون قتال، في مشهد يعكس حجم الانهاك الداخلي.
هذه الوقائع لا تُظهر مجرد تراجع تكتيكي، بل انهياراً في هيبة الجيش التي ظل يستمد منها شرعيته منذ الاستقلال. فكيف يمكن لقوة تزعم تمثيل “الدولة” أن تعجز عن حماية واحدة من أهم مدن دارفور؟

الدعم السريع: معركة الصورة قبل السلاح

بالمقابل، تواصل قوات الدعم السريع تقدمها بخطوات محسوبة. شهادات سكان من الفاشر تؤكد أن مقاتليها يفرضون نقاط تفتيش، ويؤمنون الطرق الحيوية، ويسمحون بمرور قوافل إغاثية. هذا السلوك ليس عفوياً، بل جزء من خطة أوسع: تحويل القوة العسكرية إلى سلطة أمر واقع.

الدعم السريع يدرك أن المجتمع الدولي يبحث عن “من يضمن وصول المساعدات”، لذلك يعمل على تقديم نفسه كقوة مسؤولة، في وقت يواجه فيه الجيش اتهامات بالعرقلة أو الفشل. إنها معركة الصورة قبل أن تكون معركة سلاح.

ورقة المساعدات.. البعد الخفي

في قلب هذه الأزمة، تتحول المساعدات الإنسانية إلى ورقة ضغط سياسية. تقارير منظمات الإغاثة تشير إلى أن المدنيين في الفاشر يعيشون على حافة المجاعة: نقص حاد في الغذاء، انهيار شبه كامل في المرافق الصحية، وأعداد متزايدة من النازحين.
لكن المدهش أن “الممرات الإنسانية” باتت أداة تفاوض بحد ذاتها: من يسمح بمرورها يكسب شرعية إضافية، ومن يعجز عن تأمينها يفقد ثقة الداخل والخارج. وهنا يظهر الفارق: الدعم السريع يوظف الورقة لصالحه، بينما الجيش يتخبط في تبريرات لا تجد صدى.

المبادرة الأمريكية – الخليجية – المصرية: أكثر من إنسانية

في خضم هذا الوضع، خرجت مبادرة مشتركة تقودها الولايات المتحدة بالشراكة مع الإمارات والسعودية ومصر، لتأمين وصول المساعدات إلى دارفور. ظاهرياً، الهدف إنساني، لكن التحليل الاستقصائي يكشف أبعاداً أعمق:

  • اعتراف ضمني بفشل الجيش في القيام بدوره التقليدي.

  • فتح الباب أمام التعامل مع الدعم السريع كقوة واقعية لا يمكن تجاوزها.

  • محاولة لاحتواء الكارثة قبل أن تتحول إلى أزمة إقليمية عابرة للحدود.

بمعنى آخر، المبادرة لم تأت فقط لإنقاذ المدنيين، بل لتثبيت واقع جديد على الأرض، يفرض حسابات سياسية مختلفة.

صراع الشرعية: من يربح الغد؟

جوهر الأزمة في الفاشر يتجاوز السلاح إلى سؤال أكبر: من يملك الشرعية في السودان؟
الجيش يلوح بتاريخ الدولة ورمزية المؤسسة العسكرية. لكن هذا التاريخ يتآكل أمام الوقائع اليومية على الأرض. الدعم السريع، الذي افتقد لأي شرعية في بدايته، يحاول الآن بناء “شرعية بديلة” عبر خطاب حماية المدنيين وتسهيل الإغاثة.
وبين الروايتين، يظل المجتمع الدولي هو الحكم الفعلي: فاعترافه بقدرة طرف على إدارة مناطق النزاع قد يعني منحه مقعداً على طاولة التفاوض في أي تسوية قادمة.

المدنيون.. الحلقة الأضعف

وراء هذه المعادلة السياسية – العسكرية، يظل المدنيون في الفاشر هم الحلقة الأضعف. شهادات النازحين تؤكد أن حياتهم اليومية تحولت إلى صراع من أجل البقاء: البحث عن الطعام، الخوف من القصف، وانعدام الأمن. لكن ما يزيد قسوة الوضع أن معاناتهم أصبحت ورقة مساومة بين الأطراف.
فكل طرف يحاول استغلال “أزمة المدنيين” لتلميع صورته أو إضعاف خصمه، ما يكشف الجانب الأكثر قتامة في هذه الحرب: تحويل المأساة الإنسانية إلى أداة سياسية.

التحقيق في خيوط المشهد يقود إلى حقيقة واحدة: الفاشر هي بوابة إعادة رسم خريطة السودان. فهي تكشف انهيار المؤسسة العسكرية التقليدية، وصعود قوة بديلة، ودخول المجتمع الدولي في صياغة المستقبل.
السيطرة على الفاشر لا تعني فقط حسم معركة ميدانية، بل تحديد من سيحمل لقب “الطرف الشرعي” في السودان الجديد. وهنا تكمن خطورة المرحلة: فما يحدث اليوم في شوارع الفاشر قد يكون الشرارة التي ترسم ملامح الدولة السودانية لعقود قادمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى