تسريبات

العزلة المصوَّرة: البرهان بين خطاب القوة وصورة الإحراج في الأمم المتحدة


قرار الولايات المتحدة الأميركية بتقييد حركة وفد عبد الفتاح البرهان في نيويورك لا يمكن اعتباره مجرد إجراء بروتوكولي تنظمه القوانين الأميركية الخاصة بالبعثات الأجنبية. فالمشهد بمجمله يحمل رمزية تتجاوز حدوده الجغرافية ليصبح رسالة سياسية وإعلامية موجّهة إلى الداخل السوداني وإلى الرأي العام الدولي على السواء. ففي لحظة كان من المفترض أن يستعرض السودان عبر وفده مكانته في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ظهر الوفد محاصراً بدائرة صغيرة في مانهاتن، عاجزاً عن التحرك بحرية، وكأن السلطة التي يمثلها لم تعد مقبولة كشريك طبيعي في المنظومة الدولية.

هذه الصورة الرمزية تضرب في العمق ما تبقى من صورة البرهان نفسه. فغيابه عن قيادة الوفد لم يكن مجرد تفويض بروتوكولي، بل هروباً من مواجهة واقع لم يعد في صالحه. إذ يدرك الرجل أن ظهوره شخصياً في نيويورك في ظل هذه القيود سيضاعف من مشهد الإحراج، وسيجعل العالم يشاهد قائد جيش عاجزاً عن الحركة خارج دائرة مرسومة على الخريطة. ما جرى هو أن صورة القائد العسكري القوي الذي يحكم قبضته على الداخل تلاشت بمجرد أن خرجت إلى العلن صورة أخرى: قائد محاصر ومعزول، ليس فقط سياسياً بل جغرافياً وإعلامياً أيضاً.

الرسائل الرمزية لم تتوقف عند حدود صورة البرهان، بل طالت وفده الدبلوماسي. فالمشاركة في الجمعية العامة للأمم المتحدة تمثل تقليدياً فرصة للقاءات الجانبية والمفاوضات غير الرسمية، حيث تبنى التحالفات وتعقد التفاهمات. لكن الوفد السوداني وجد نفسه محروماً من هذا الهامش، ليظهر كوفد منزوع الحركة والمكانة، يشارك شكلياً لكنه في الواقع معزول عن قلب التفاعلات الدبلوماسية. وهذا المشهد لا يقل أهمية عن أي تصريح سياسي، لأن السياسة الدولية كثيراً ما تصنعها الانطباعات والصور بقدر ما تصنعها البيانات الرسمية.

في الإعلام الدولي، جاء القرار الأميركي ليجد صدى واسعاً. الصحافة الغربية تناولت الخبر باعتباره دليلاً إضافياً على فقدان الثقة في السلطة العسكرية السودانية. واللغة المستخدمة في التغطيات الإعلامية لم تكن محايدة، بل مشبعة بعبارات العزلة وعدم الشرعية. بهذا المعنى، لم يعد الأمر مقتصراً على نص قانوني صادر عن مكتب البعثات الأجنبية في واشنطن، بل تحول إلى سردية إعلامية متكاملة تعزز صورة البرهان كقائد غير مرحب به، وتضعه في خانة من يخضعون للقيود لا من يفرضونها.

الرمزية الأعمق تتجلى في كيفية تلقي الشارع السوداني لهذه الأخبار. فبينما يسعى البرهان لتسويق نفسه كحامٍ للسيادة الوطنية وقائد للجيش، يرى السودانيون صور وفده محاصراً في دائرة ضيقة بنيويورك. هذا التناقض بين الخطاب الداخلي والواقع الخارجي يولد شعوراً بأن السلطة في بورتسودان عاجزة حتى عن الحركة في الخارج، فكيف ستتمكن من قيادة بلد يعاني حرباً أهلية وانقسامات عميقة؟ الرسالة التي تصل إلى المواطن السوداني بسيطة لكنها قاسية: القائد الذي لا يُسمح له بالتحرك في نيويورك لن يُسمح له بالتحرك في فضاء الشرعية الدولية.

البعد الرمزي لا ينفصل أيضاً عن لعبة العلاقات العامة الدولية. الولايات المتحدة اختارت أسلوباً عملياً لكنه محمّل بالرسائل: فهي لم تفرض عقوبات اقتصادية جديدة ولم تعلن حظر سفر علني، بل لجأت إلى ما يمكن وصفه بـ”العقوبة الصامتة” التي تترك أثرها عبر الصورة والانطباع. هذا النوع من الإجراءات غالباً ما يكون أكثر فعالية من العقوبات التقليدية، لأنه يضع القائد في موقع الإحراج أمام شعبه وأمام حلفائه وأمام خصومه على السواء.

النتيجة أن البرهان وجد نفسه محاطاً بجدار غير مرئي لكنه شديد الصلابة، جدار رمزي صنعته قرارات واشنطن وصاغته وسائل الإعلام الدولية. وكلما حاولت سلطته تقديم مشاركتها في الجمعية العامة كدليل على انفتاحها على العالم، انكشفت الحقيقة العكسية: الحضور موجود، لكن الحرية غائبة؛ المشاركة شكلية، لكن الشرعية مفقودة.

هذه الصورة تعمّق أيضاً من عزلة البرهان الإقليمية. فالقوى الإقليمية التي ما زالت تراهن على الجيش السوداني كفاعل مركزي ستقرأ جيداً هذه الرسائل الرمزية. ما تراه هو أن المجتمع الدولي لم يعد يتعامل مع البرهان كقائد طبيعي، بل كعنصر محاصر. وهذا سيؤثر حتماً على استعداد تلك القوى للمضي في دعمه بلا شروط. فالرمزية هنا لا تخاطب فقط الشعب السوداني أو الإعلام، بل توجه إشارات صامتة إلى العواصم الإقليمية مفادها أن الرهان على البرهان مكلف ومخاطره عالية.

الأمر الأهم أن هذه الرمزية ليست منفصلة عن الواقع العسكري والسياسي في الداخل السوداني. فالعزلة الدولية التي عبّر عنها مشهد نيويورك ليست سوى انعكاس للعزلة الداخلية التي يواجهها الجيش في ظل حرب طويلة أرهقت المجتمع السوداني ومزّقت نسيجه. بهذا المعنى، تصبح دائرة الـ 25 ميلاً في مانهاتن انعكاساً رمزياً لحالة السودان نفسه: بلد محاصر بالحرب والانقسامات، وسلطة محاصرة بالعزلة والريبة.

إن الرسالة التي أرادت واشنطن إيصالها تتجاوز حدود البروتوكول إلى عمق المعادلة السياسية: البرهان وقيادته العسكرية لن يكونوا شركاء طبيعيين في المجتمع الدولي، بل أطرافاً مشبوهة يُراقبون ويُقيدون، ويُتركون في هامش الصورة لا في مركزها. وهذه الرسالة الإعلامية لا تقل خطورة عن أي عقوبات معلنة، لأنها تمس جوهر الشرعية وصورة القائد أمام شعبه والعالم.

في النهاية، فإن تقييد حركة وفد البرهان في نيويورك لم يكن مجرد إجراء تقني، بل لوحة رمزية عكست واقعاً أكبر: قائد يسعى إلى فرض هيمنته بالسلاح في الداخل، لكنه عاجز عن التحرك في الخارج؛ سلطة تحاول تسويق نفسها كقيادة انتقالية، لكنها تظهر في الإعلام الدولي كسلطة محاصرة ومعزولة. بهذا المعنى، فإن القيود الجغرافية في نيويورك لم تكن إلا تجسيداً مكثفاً للعزلة السياسية والإعلامية التي تطوّق سلطة بورتسودان وتضع مستقبلها على المحك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى