تسريبات

السعودية في قلب الأزمة السودانية: قراءة في دلالات زيارة وليد الخريجي إلى بورتسودان


في سياق إقليمي مشحون، وأمام مشهد داخلي سوداني شديد التعقيد، جاءت زيارة نائب وزير الخارجية السعودي، وليد الخريجي، إلى مدينة بورتسودان يوم 12 يوليو 2025، لتكشف عن أبعاد استراتيجية تتجاوز الطابع الدبلوماسي الظاهري للحدث. الزيارة، التي اتسمت بالسرية والسرعة، لم تكن مجرّد جولة بروتوكولية، بل حملت رسائل متعددة، عسكرية وسياسية، استهدفت تهدئة التوترات بين المكونات المتصارعة في السلطة، وضبط الإيقاع الانتقالي بما يتماشى مع أولويات المملكة في الإقليم.

السعودية لاعب مباشر لا وسيط

لم تعد الرياض تتصرف كداعم من الخارج للعملية الانتقالية في السودان، بل باتت تشارك في هندسة تفاصيلها. من خلال استقبالها لرئيس الوزراء كامل إدريس في مايو، ثم إرسال مبعوث سياسي رفيع إلى بورتسودان بعد أسابيع، تُظهر المملكة رغبة واضحة في رسم حدود التوازنات داخل السلطة الانتقالية السودانية، وخاصة بين الجيش والحكومة المدنية، دون الانجرار إلى دعم غير مشروط لأي طرف.

الخريجي، الذي التقى البرهان وقادة الجيش ثم رئيس الوزراء إدريس، بدا وكأنه يؤدي دور “مُسيّر الخلافات” أكثر منه ناقل رسائل. كان الهدف من زيارته مزدوجًا: تطمين الجيش من جهة، وإعادة ضبط تموضع رئيس الوزراء داخل الهامش المقبول سعوديًا من جهة أخرى.

الرسائل للبرهان.. لا سلاح بدون التزام

طلب البرهان من الخريجي دعمًا عسكريًا ولوجستيًا لمواجهة الضغوط المتزايدة في دارفور وكردفان. لكن الرد السعودي جاء مشروطًا ومبهمًا، يحمل في طيّاته امتناعًا غير مباشر. فالمملكة، وهي تدرك تعقيدات الصراع الأهلي، لا تريد أن تُحسب على طرف بعينه في حرب داخلية غير محسومة، ولا ترغب في الظهور كراعٍ لحسم عسكري قد يؤدي إلى تفكك السودان أو تدويل أزمته.

السعودية تراهن على حكومة انتقالية مستقرة، لا على نصر عسكري عابر. ولذلك، فإن تعهد الخريجي بـ”نقل الرسالة إلى الرياض” دون وعد مباشر، يعكس رغبة المملكة في شراء الوقت، وربما فرض شروط مقابلة لأي دعم عسكري لاحق، تتعلق بهيكل السلطة وشكل الشراكة المدنية – العسكرية.

كامل إدريس.. شريك تحت المراقبة

الحراك السعودي تجاه كامل إدريس يعكس إدراكًا لخطر انفراط عقد المرحلة الانتقالية. فالرجل، الذي عاد من السعودية إلى السودان مدعومًا سياسيًا، بدأ يُبدي تحفظات على تدخلات الجيش، ما قد يهدد توازن التحالف المؤقت. زيارة الخريجي جاءت في هذا السياق لتثبيت إدريس وضبط سقف حركته.

المطلوب من إدريس، بحسب المصادر، ليس فقط الصبر على تدخلات الجيش، بل الالتزام بتطبيق أجندة سعودية واضحة: تحييد التيارات اليسارية، ضمان مشاركة محدودة ومنضبطة للإسلاميين، وتعزيز التعاون الأمني مع الرياض. بهذا المعنى، فإن دعم إدريس لا يعني منحه الاستقلالية، بل توظيفه كواجهة انتقالية تخدم ترتيبًا سياسيًا محسوبًا.

عودة الإسلاميين للواجهة.. تكتيك لا تحوّل استراتيجي

اللقاء اللافت بين الخريجي وعلي كرتي، الأمين العام للحركة الإسلامية، يشير إلى مناورة تكتيكية سعودية لإعادة إدماج الإسلاميين في مشهد الحكم، ولو مرحليًا. فالمملكة، التي كانت في السنوات الماضية تتخذ موقفًا متشددًا تجاه الإسلام السياسي، تجد نفسها مضطرة إلى التعامل مع كرتي كرجل توازن داخل الحركة، يمكنه توجيه التيار الإسلامي نحو دعم حكومة إدريس بدلًا من تقويضها.

هذا التحرك لا يعكس بالضرورة تحولًا في الرؤية السعودية للإسلاميين، بل استجابة براغماتية لفراغات القوى في السودان. إنها عودة مشروطة، ومؤقتة، في إطار “تحالف الضرورة” وليس إعادة احتضان استراتيجية.

بين بورتسودان والرياض.. مركز القرار ينتقل

تؤشر هذه التطورات إلى أن القرار الانتقالي السوداني بات يتشكل بشكل متزايد خارج الحدود. اللقاءات بين الرياض وبورتسودان لم تعد زيارات متبادلة، بل مفاوضات تقرير مصير. والفاعل الإقليمي الأساسي هنا هو السعودية، التي تسعى لاحتواء أي تصعيد قد يهدد مصالحها في البحر الأحمر، ويعزز نفوذ قوى منافسة كإيران أو تركيا أو حتى روسيا.

زيارة وليد الخريجي إلى بورتسودان لم تكن سوى رأس جبل الجليد في تحرك سعودي أكثر عمقًا نحو إعادة تشكيل التوازنات السياسية في السودان. المملكة اليوم تؤدي دور “الموازن الحاسم” في معادلة معقدة تشمل الجيش، المدنيين، والتيارات الإسلامية، لكنها تفعل ذلك بحذر، ووفق شروطها الخاصة، وبهدف ضمان مصالحها الاستراتيجية في الإقليم.

وفي ظل استمرار الانقسامات السودانية، فإن نجاح السعودية في هذا الدور سيبقى مرهونًا بقدرتها على الإمساك بكل الخيوط دون أن تتحول إلى طرف في الصراع نفسه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى