الجيش والإخوان وجهان لعملة واحدة
يتمثل الإشكال الجوهري في الأزمة السودانية في طريقة إعادة بناء الجيش الذي تعرض للتسيس العقائدي، ولأهواء ثلاثة أنظمة عسكرية توصف بـ”الدكتاتورية والانقلابية”. تأرجحت من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين المتطرف. الأمر الذي أودى بالجيش إلى قبضة جماعة الإخوان المسلمين “الجبهة القومية الإسلامية” خاصة في ظل تغلغلها في تكوينه وسيطرتها على الحكم. ومن ثم انقلاب عمر البشير أحد عناصرها عام 1989 .والذي استمر حتى 2019، وتصفية العناصر الوطنية داخله بالطرد والإعفاء أو الإعدام.
وفي هذا الكتاب “الجيش السوداني والسياسة”. للباحث في الشؤون العسكرية العميد عصام الدين ميرغني (أحد مؤسسي المعارضة السياسية العسكرية لنظام حكم الجبهة القومية الإسلامية) .يسلط الكاتب الضوء على فترة زمنية تمتد لقرن كامل. تبدأ من قبل تكوين “قوة دفاع السودان” التي أنشئت في العام 1925، ثم إعلان “الجيش السوداني” في يناير 1954. وأخيرا “القوات المسلحة السودانية” حتى يومنا هذا.
ورأى ميرغني أن خلال معظم هذه الحقب الزمنية كان الجيش السوداني في صدارة الأحداث السياسية التي صاغت تاريخ السودان الحديث. لافتا إلى أن هدف الكتاب بحث الجذور التاريخية لدخول الجيش السوداني أسوار السياسة، ورصد العوامل والمؤثرات التي قادت إلى تدخله بصورة متتالية. وإسقاطه للسلطة المدنية الديمقراطية. ليصبح السودان على إثرها من أكثر الدول الأفريقية هيمنة وحكما تحت ظل الأنظمة العسكرية الدكتاتورية.
كما يغطي الكتاب الذي يأتي في جزأين جذور وتمدد العمل السياسي داخل القوات المسلحة السودانية في محاولة لرصد معظم الأحداث السياسية العسكرية التي حفرت خطوطها على وجه السودان. وفي الجزء الثاني يتوقف عند تجربة المعارضة السياسية ـ العسكرية في مقاومة الأنظمة العسكرية الشمولية في السودان.
تناول ميرغني في كتابه تغلغل جماعة الإخوان المسلمين (الجبهة القومية الإسلامية). داخل الجيش السوداني منذ العام 1949. وخصص الكثير من فصوله لإستراتيجية اختراقهم للجيش .وبناء جيش عسكري إسلامي، وانقضاضهم على كل شيء لتأمين سلطتهم. راصدا بالأسماء القيادات التي كانت تتبع التنظيم منذ نشأتها وحتى الاستيلاء على السلطة عام 1989 بقيادة عمر حسن أحمد البشير وقيامها بعد ذلك بأخونة القوات المسلحة السودانية وطرد وإعفاء عناصرها غير المنتمية إليها. وتصديها لحركة مارس 1990 ثم ارتكابها مذبحة 1990 .بإعدام الكثير من الضباط وصف ضباط بمباركة عناصرها الحاكمة ممثلة في البشير وقيادات الجيش الجدد.
يتتبع ميرغني ولادة حركة الإخوان المسلمين في السودان حينما لجأ الضابط الأخواني أبوالمكارم عبدالحي إلى السودان هاربا من ثورة يوليو 1952 في مصر وملاحقتها لعناصر الحركة. وكان أبوالمكارم هو المسؤول عن الجهاز الخاص للحركة في مصر، وهو الجهاز المسؤول عن العمل السري داخل الجيش والشرطة، وبالتالي انتقلت الأسرار والتجربة كاملة إلى السودان. لتكوين البناء القاعدي في تعامل حركة الإخوان المسلمين السودانية مع الجيش وفي أسلوب العمل السري والتخطيط للوصول إلى السلطة لحقب لاحقة.
ويلفت إلى أن أول محاولة جادة لدخول الإخوان ممر السلطة عبر الجيش السوداني كانت في عام 1959، حيث استطاع الرشيد الطاهر بكر. المراقب العام للإخوان المسلمين آنذاك. خلق صلات حميمة مع بعض ضباط الجيش العاملين في القيادة الشرقية بمدينة القضارف. وفتح معهم مشروع تحالف للإطاحة بحكم الفريق إبراهيم عبود، والاستيلاء على السلطة. وعرفت تلك المحاولة بانقلاب التاسع من نوفمبر 1959، أو انقلاب المقدم علي حامد، وقد أجهضت قبل التنفيذ. وحكم بعدها بإعدام خمسة من الضباط وأرسل الرشيد الطاهر بكر إلى السجن محكوما عليه بخمس سنوات.
وتنصلت حركة الإخوان المسلمين من مسؤولية انقلاب التاسع من نوفمبر 1959. رغم أنها أقامت صلاة الغائب على أرواح الضباط الذين تم إعدامهم وتظاهرت أثناء الدفن.
ويؤكد ميرغني أن حركة الإخوان المسلمين السودانية .قد انصب كل جهدها في بناء قواعد انتشارها منذ الخمسينات وسط الحركة الطلابية في المدارس الابتدائية والثانوية. ليقوى ذلك الانتشار ويتعزز في جامعة الخرطوم فيما بعد.
وطوال فترتي الستينات والسبعينات اعتمد الجيش السوداني بصورة أساسية على تجنيد الطلاب الحربيين بعد إكمالهم للدراسة الثانوية. وتقلص التجنيد للكلية من مراحل تعليمية أدنى. أو من صف الضباط. كان هناك العديد من الضباط ذوي الميول الإخوانية منذ فترة الدراسة. ولم تتفطن لهم قيادة الجيش في بداية خدمتهم. وقد ظهر ذلك واضحا في ظهورهم كمتقاعدين عاملين تمت إعادة استيعابهم في تنظيمات الجبهة الإسلامية بعد العام 1985.
ويرى أن الإخوان المسلمين استوعبوا فشل محاولتهم الانقلاب على النظام المايوي (1969 ـ 1977). وفشل تجربة المعارضة الخارجية المسلحة. وضرورة مصالحة النظام قبل كل الأطراف الأخرى المكونة لـ”الجبهة الوطنية”، فكانوا هم أول من أرسل مذكرة من داخل سجن كوبر في عام 1977. طالبين المصالحة والانخراط في النظام المايوي.
تحقق لهم ذلك في السابع من يوليو 1977 حينما وقع الصادق المهدي رئيس الجبهة الوطنية المعارضة اتفاقية المصالحة الوطنية في مدينة بورتسودان. وتركز كل جهدهم بعد المصالحة على العمل التنظيمي، وهي البداية الحقيقية للعمل التنظيمي السري الجاد في الحركة الطلابية. رصيدهم الوحيد حتى ذلك الوقت. وامتد نشاطهم السري إلى كل القطاعات الأخرى بما فيها القوات المسلحة وأجهزة الأمن.
يقول القيادي الإخواني الراحل حسن الترابي “أما بعد المصالحة في العام 1977. فقد حدثت نهضة تنظيمية شاملة اعتبارا بتجارب فترة الجهاد. واستيعابا لمحصولها في امتدادات العمل الاجتماعي. والاقتصادي والأمني والخارجي ونحو ذلك. واستمرت هذه النهضة أعواما فأحدثت تحولا”.
ساعد حركة الإخوان على الانطلاق التنظيمي والانتشار. القدرات المالية الكبيرة التي توفرت لها خلال فترة العمل الخارجي والاستثمارات التجارية الرابحة التي قامت بها.كوادر التنظيم خاصة في السعودية ومنطقة الخليج.
ويشير ميرغني إلى أن الترابي وضع إستراتيجيته لبناء التنظيم على أربع ركائز حركية: الانتشار والاختراق والاحتلال والاستيلاء. وتحركت الحركة في أربعة محاور رئيسية، هي المجال الاقتصادي. الحركة الطلابية، الإعلام والنشر. والقوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى.
ويقول “تجمع كل المصادر على أن البداية الجادة لبناء تنظيم عسكري فاعل لحركة الإخوان المسلمين داخل القوات المسلحة كانت بعد العام 1980. وإن أول مسؤول عسكري للتنظيم تم تعيينه بعد ذلك التاريخ هو المقدم طيار مختار محمدين. الذي قتل وهو برتبة عقيد عندما تحطمت طائرته في مدينة الناصر بأعلى النيل في نهاية العام 1988. وتجمع المصادر أيضا على أن تجنيد العقيد طيار محمدين قد تم بواسطة راشد عبدالرحيم، وهو أحد كوادر الإخوان العاملين في حقل الصحافة، ويمت بصلة قرابة مباشرة لمختار محمدين. بدأ المقدم مختار محمدين حملة تجنيد سرية في القوات المسلحة الجوية. وقد ذكر لي العقيد طيار مصطفى الدويحي أنه كان في مهمة رسمية إلى ألمانيا في مطلع الثمانينات وبصحبته مختار محمدين، وقد حاول الأخير جاهدا تجنيده لتنظيم الإسلاميين، لكنه رفض محاولته متمسكا بقومية الانتماء إلى القوات المسلحة. وكان العقيد مهندس جوي عبدالرحيم محمد حسين هو الساعد الأيمن لمختار محمدين في التنظيم، وقد تمكنا معا من بناء قاعدة جيدة للإخوان داخل القوات الجوية، ويظهر ذلك بوضوح في عدد المشاركين من الضباط الفنيين بالقوات الجوية في انقلاب الثلاثين من يونيو 1989”.
ويكشف أن الرجل الثاني في التنظيم والذي قام بجهود كبيرة في بناء التنظيم العسكري السري. وكلف بمهام حيوية قبل الانقلاب. هو العميد كمال علي مختار، وهو كادر ملتزم في جماعة الإخوان منذ فترة دراسته في مدرسة دنقلا الثانوية. لكنه حجب تلك المعلومات بإظهاره للقومية المطلقة للقوات المسلحة، وتطبيق أقصى درجات السرية والحذر في تحركاته ونشاطه التنظيمي. وفي نهاية السبعينات أوفد مختار إلى منطقة الخليج معارا للعمل في جيش دولة الإمارات العربية المتحدة. كانت تلك الفترة هي المرحلة الذهبية لعمل تنظيم الإخوان في مناطق الخليج العربي والسعودية. وقد استثمرت بذكاء لتطوير العمل التنظيمي السري وبناء القدرات الاقتصادية. قام مختار في فترة عمله بالإمارات بتجنيد كوادر عديدة للتنظيم، وقد عاونه بصورة مباشرة المقدم عمر حسن البشير الذي كان أيضا معارا للجيش الإمارات في تلك الفترة.
ويلفت ميرغني إلى أن عمر حسن البشير قائد انقلاب الجبهة القومية الإسلامية .ورئيس حكومة الإنقاذ الوطني 1989. بعد الخلاف والانقسام الذي نشب داخل أروقة الجبهة الإسلامية في ديسمبر 1999 بين حسن الترابي والمجموعة التي يقودها علي عثمان محمد طه .(الذي ربطته علاقة مع البشير منذ كانا معا بمدرسة الخرطوم الثانوية. والذي كان على قائمة الإخوان في انتخابات اتحاد طلاب المدرسة وفاز برئاسته).
وكشف البشير في مؤتمر صحفي عقد بمقر حزب المؤتمر الوطني ـ حزب الجبهة الإسلامية الحاكم ـ مساء الرابع عشر من ديسمبر 1999 عن حقيقة انتمائه الذي ظل ينكره طوال عشر سنوات .وهو رئيس لنظام جبهة الإنقاذ “يونيو 1989 ـ ديسمبر 1999” .
ويقول ميرغني في كتابه “كشف الفريق عمر البشير رئيس الجمهورية السودانية .وبصورة واضحة أنه انخرط في صفوف الحركة الإسلامية منذ كان طالبا بالسنة الأولى في المرحلة الثانوية. وقال إن الاستيلاء على السلطة في الثلاثين من يونيو 1989 تم بأمر من قيادة الجبهة الإسلامية”.
ويوضح أن في العام 1983 نجحت حركة الإخوان في خلق كل الظروف المؤاتية .لبناء وانتشار التنظيم السياسي والعسكري للحركة. حيث وصلت كوادر الإخوان القيادية إلى مراكز اتخاذ القرار في الوزارات والأجهزة السيادية للنظام المايوي. وبذلك أتيحت لهم الفرصة لمعرفة كل أسرار الدولة والحصول على أدق التفاصيل والتمرس في أسلوب إدارة الحكم.
تمكنت الحركة من احتواء النظام المايوي المواجه بالفشل في سياساته والمعارضة الداخلية والخارجية المتصاعدة. ودفعه إلى الاحتماء خلف قوانين قمعية متدثرة بالإسلام صاغتها كوادر الإخوان. وسميت مجازا بقوانين الشريعة الإسلامية.. تصاعدت حمى الاتجار بالدين. ووقف على رأس دعاتها الرئيس جعفر نميري الذي بايعه الإخوان “إماما للمسلمين”. أخذت الخدمة المدنية ومؤسسات المجتمع المدني نصيبا وافرا من تلك السياسات الجديدة، فأقصيت القيادات ذات التوجه الليبرالي والعلماني، ودخل السودان في المراحل قبل النهائية لعصر الانحطاط والعودة إلى القرون الوسطى. والتي ستكمل فيما بعد عند حقبة التسعينات.
ويرى أن نصيب القوات المسلحة السودانية كان أكبر. ويصب معظمه لصالح حركة الإخوان، لوحقت القيادات العسكرية العليا، وجلد الضباط علنا. وانفتحت أسوار الوحدات العسكرية للدعاة والمبشرين من كوادر الإخوان. ولمن هم على شاكلتهم من دعاة الهوس الديني. لإلقاء محاضرات وعقد دورات دينية تحت مسمى الوعظ والإرشاد الديني والتوجيه المعنوي.. كان الأمر المثير للدهشة أن يرغم عدد كبير من جنود القوات المسلحة وهم من ذوي الديانات المسيحية وعبدة الأرواح من أبناء جنوب السودان ومنطقة جبال النوبة، على حضور المحاضرات قسرا.. أما قيادات القوات المسلحة التي أمسكت بوصيا القيادة الرشيدة التي اختطها “الإمام النميري” فقد كانت في غيبوبة.
ويكشف ميرغني أن أكبر إنجازات حركة الإخوان جاءت من رافدها، ومؤسستها الملتزمة التي تسيطر عليها، والمسمى “المركز الإسلامي الأفريقي”. فقد تم التخطيط للاستفادة القصوى منه إثر اختراها لفرع التوجيه المعنوي في القوات المسلحة، والذي ركب الموجة الدينية. فقام بتخطيط الدورات المطلوبة في الإرشاد والتوجيه الديني. ودفع فرع شؤون الضباط إلى إرسال الضباط بصور منتظمة لحضور دورات المركز. كانت حجة فرع التوجيه المعنوي هي أن تستفيد القوات المسلحة من تأهيل أولئك الضباط في نشر الوعي والالتزام الديني تمشيا مع التوجه الإسلامي للدولة. بدأت تلك الدورات عام 1983 واستمرت حتى وقوع انقلاب الجبهة الإسلامية في الثلاثين من يونيو 1989، ورجح أنها مستمرة حتى الآن. وقد كانت دورات المركز الإسلامي الأفريقي عبارة عن خلية مفتوحة لتجنيد ضباط القوات المسلحة في صفوف حركة الإخوان، وفي الحد الأدنى كسب تعاطفهم وتأييدهم لسياساتها.