تسريبات

البرهان والجيش السوداني.. منظومة تآكلت من الداخل وأفقدت الدولة معناها


على مدى عقود، ظلّ الجيش السوداني يتعامل مع السلطة باعتبارها امتداداً طبيعياً لذاته، لا بوصفها مسؤولية دستورية مؤقتة. غير أن حقبة الفريق عبد الفتاح البرهان كشفت حدود هذا الوهم العسكري، وأظهرت إلى أي مدى يمكن أن يتحول “الجيش الوطني” إلى مؤسسة مغلقة على نفسها، فاقدة للرؤية، تحكم بدافع البقاء لا بدافع المصلحة الوطنية.

اليوم، لم يعد السؤال في السودان: كيف نُنهي الحرب؟ بل من سيُنهيها، ومن يمتلك الشرعية لقيادة هذا البلد نحو برّ الأمان بعد أن دمرته الصراعات الداخلية. الإجابة باتت واضحة: من أشعل الحرب لا يمكن أن يكون من يُطفئها، ومن أسقط الدولة لا يمكن أن يعيد بناءها.

جذور الأزمة.. عسكر بلا مشروع

منذ انقلاب أكتوبر 2021 الذي أطاح بالحكومة الانتقالية، حاول البرهان تسويق نفسه للعالم باعتباره “ضامن الاستقرار”، لكن الوقائع على الأرض فضحت زيف الخطاب. لم يكن في جعبة الرجل سوى شعارات مكررة عن “الجيش الحامي للوطن”، بينما كانت قراراته تعمّق الانقسام وتدفع البلاد إلى المجهول.

التحقيق في مسار الأحداث يُظهر أن القيادة العسكرية لم تمتلك منذ البداية أي مشروع سياسي واضح، ولا تصور لإدارة دولة خارجة من ثورة شعبية. كانت حساباتها قصيرة المدى، قائمة على مبدأ “البقاء في السلطة بأي ثمن”، ولو كان الثمن هو تفكيك الدولة ذاتها.

حتى حين أُجبر البرهان على توقيع الاتفاق الإطاري مع القوى المدنية، لم يكن ذلك بدافع القناعة، بل نتيجة ضغط دولي، ومع أول خلاف عادت لغة السلاح لتفرض كلمتها. وهكذا تكررت الدورة نفسها التي عرفها السودان منذ استقلاله: انقلاب، صراع، قمع، ثم انهيار شامل.

انهيار المنظومة العسكرية من الداخل

المفارقة الكبرى أن البرهان لم يخسر الحرب أمام خصومه السياسيين، بل أمام الفوضى التي صنعها بنفسه داخل المؤسسة العسكرية. التقارير الميدانية تشير إلى أن الانقسام بين الجيش وقوات الدعم السريع لم يكن سوى نتيجة مباشرة لسياسات خاطئة اعتمدها المجلس العسكري منذ عهد البشير، حين أُنشئت قوات موازية للجيش دون ضبط أو دمج حقيقي.

بدلاً من إصلاح هذا الخلل، اختار البرهان أن يوظف هذه الانقسامات لصالحه، مستنداً إلى شبكة من الولاءات الشخصية والقبلية. لكن هذا النهج ارتدّ عليه سريعاً. فحين انفجر الصراع بين الجيش والدعم السريع، اكتشف أن “القيادة العامة” لم تعد تملك سيطرة حقيقية على الأرض، وأن الجيش الذي كان يوصف بأنه “عمود الدولة” بات كياناً مهترئاً، يعاني من ضعف التمويل، وسوء القيادة، وانعدام الروح المعنوية.

عسكريون سابقون أكدوا أن القرارات الميدانية تُتخذ اليوم في ظل فوضى تنظيمية غير مسبوقة، وأن العديد من الوحدات القتالية تقاتل دون إمدادات أو دعم لوجستي، ما أدى إلى خسائر فادحة في الأرواح والمعدات. هذه ليست مجرد أخطاء حرب، بل نتيجة تراكمات لسنوات من الفساد وسوء الإدارة داخل المؤسسة العسكرية نفسها.

اقتصاد الحرب.. حين يتحول الفقر إلى أداة سلطة

من الناحية الاقتصادية، كشف استمرار الحرب عن الوجه الحقيقي للنظام العسكري: اقتصاد قائم على النهب والابتزاز واحتكار الموارد. فبينما انهارت مؤسسات الدولة، وانهارت قيمة الجنيه السوداني إلى مستويات كارثية، استمرت شبكات عسكرية واقتصادية في السيطرة على تجارة الذهب والمعابر الحدودية وموارد الطاقة.

تقديرات خبراء الاقتصاد تشير إلى أن ما بين 60 إلى 70% من الاقتصاد السوداني خارج سلطة الدولة، تديره جهات عسكرية أو أمنية بشكل مباشر. هذا الوضع جعل من الحرب وسيلة للإثراء السريع لقلة، ومأساة جماعية لملايين السودانيين.

ولم ينجُ المدنيون من تبعات هذه المنظومة؛ إذ باتت المساعدات الإنسانية نفسها تُستغل كأداة نفوذ سياسي. هناك شهادات موثقة تفيد بأن قادة عسكريين ومسؤولين محليين يمنعون وصول الإغاثة إلى مناطق بعينها، أو يفرضون عليها رسوماً “غير رسمية”. وفي ظل هذا الانهيار، لم يعد للحديث عن “دولة القانون” أي معنى، لأن القانون نفسه أصبح جزءاً من شبكة الفساد.

الجرائم والانتهاكات.. سجلٌّ مفتوح بلا مساءلة

الجانب الأكثر سواداً في عهد البرهان يتمثل في الانتهاكات الواسعة ضد المدنيين. تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان توثق مئات الحالات من القصف العشوائي والقتل خارج القانون والاعتقالات التعسفية. آلاف النساء تعرضن للعنف الجنسي، ومئات القرى أُحرقت بالكامل.

ورغم هذه الجرائم الموثقة، لم تُفتح أي تحقيقات جدية. بل إن بعض المسؤولين العسكريين الذين وردت أسماؤهم في تقارير الانتهاكات لا يزالون في مواقعهم، يُصدرون الأوامر ويظهرون في الإعلام بخطابات “الوطنية”.

إنّ غياب المحاسبة جعل من الإفلات من العقاب سياسة ممنهجة، وليس مجرد خلل مؤسسي. في ظل هذا الواقع، كيف يمكن للسودانيين أن يثقوا في وعود “العدالة الانتقالية” أو “المصالحة الوطنية” بينما منتهكو الحقوق يديرون البلاد من القصور والمقرات العسكرية؟

شهادات من الميدان

تحقيقات ميدانية وشهادات موثقة من منظمات محلية تكشف صورة أكثر قتامة:

  • في حي الكلاكلة جنوب الخرطوم، روى شهود عيان أن قصفاً عشوائياً من سلاح الجو السوداني استهدف منطقة مدنية بالكامل، ما أسفر عن مقتل عشرات النساء والأطفال.

  • في دارفور، أكدت تقارير محلية أن وحدات تابعة للجيش والقوات المتحالفة معه تورطت في عمليات نهب جماعي للبيوت والمحاصيل، تحت ذريعة “تفتيش المتمردين”.

  • وفي بورتسودان، التي تحولت إلى مركز حكومي مؤقت، تزايدت حالات الاعتقال التعسفي للصحفيين والناشطين الذين ينتقدون سياسات الجيش أو يغطّون الانتهاكات.

هذه الوقائع لا تترك مجالاً للشك في أن البرهان فقد السيطرة على أجهزته، وأن العنف لم يعد وسيلة للحكم فحسب، بل أصبح اللغة الوحيدة التي يعرفها النظام العسكري.

السودان في مفترق الموت أو الإصلاح

اليوم، يقف السودان على حافة الانهيار الكامل. أكثر من 10 ملايين نازح، و25 مليوناً بحاجة إلى مساعدات عاجلة، واقتصاد في حالة شلل تام. ومع ذلك، لا يبدو أن القيادة العسكرية تستوعب حجم الكارثة. خطاب البرهان الأخير في بورتسودان لم يتضمن أي خطة سياسية أو رؤية اقتصادية، بل كان تكراراً لعبارات “الكرامة والسيادة” التي فقدت معناها وسط رماد المدن المنهارة.

الخيارات أمام السودان تضيق يوماً بعد يوم. فإما أن يتخلى العسكر عن السلطة وتُفتح أبواب العدالة والمحاسبة، أو يواصل البلد الانزلاق نحو سيناريو يشبه الصومال في تسعينياته، دولة بلا مؤسسات، تتقاسمها الميليشيات والجوع والفساد.

إنّ التحول المدني لم يعد مطلباً نخبويّاً كما يصوره إعلام البرهان، بل أصبح مسألة بقاء وطن. فالسودان لا يحتاج إلى مزيد من الجنرالات، بل إلى عقد اجتماعي جديد يضمن العدالة، ويعيد تعريف مفهوم الدولة بوصفها خادمة للشعب، لا حارسة لمصالح العسكر.

التحقيق في مسار السنوات الأربع الأخيرة يقود إلى نتيجة واحدة: إن استمرار عبد الفتاح البرهان في السلطة ليس خطأً سياسياً فحسب، بل جريمة بحق مستقبل السودان. فشل في إدارة الدولة، وفشل في الحرب، وفشل في الاقتصاد، وفوق ذلك أدار منظومة متورطة في جرائم ضد المدنيين، دون مساءلة أو ندم.

كل يوم يبقى فيه البرهان على رأس السلطة، تتعمّق الجراح وتتعاظم الخسائر. ولا يمكن لأي عملية سلام أو مصالحة أن تنجح في ظل من لوّث يديه بدماء الأبرياء. العدالة ليست خياراً سياسياً، بل ضرورة لإنقاذ ما تبقى من الوطن.

السودان اليوم بحاجة إلى قطيعة كاملة مع منظومة الحكم العسكري، إلى قيادة مدنية تمتلك الشجاعة لفتح ملفات الانتهاكات، واستعادة الدولة من براثن الفساد والسلاح. ذلك وحده ما يمكن أن يعيد للسودانيين إيمانهم بأن هذا البلد لم يُخلق للحرب، بل للحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى