الأسطول الخفي: كيف غذّت أنقرة الصراع الدموي في السودان

في تقرير قدمه موقع in depth reports في صيف عام 2025، ومع تصاعد الصراع الدموي في السودان، ظهرت لقطات مصوّرة تُظهر طائرات مسيّرة تحلّق فوق مناطق مأهولة بالسكان في دارفور وكردفان. لم تكن هذه الطائرات عادية؛ فقد حملت السمات المميزة للطائرات التركية بيرقدار TB2، التي سبق أن اشتهرت في حروب ليبيا وأذربيجان وأوكرانيا.
أثار ظهورها أسئلة ملحّة: كيف وصلت أنظمة عسكرية متطورة كهذه إلى بلد يخضع لحظر أسلحة أممي منذ عام 2004؟ ومن يقف وراء تسليح الجيش السوداني رغم العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على الأطراف المتحاربة؟
هذا التحقيق يكشف الخيوط الخفية لصفقة تسليح سرية بلغت قيمتها 150 مليون دولار بين شركة الصناعات الدفاعية التركية “بايكار” والجيش السوداني، تضمنت تزويده بطائرات بيرقدار TB2 وذخائر ذكية موجهة. نتتبع في هذا التحقيق المسار الكامل للصفقة: من أنقرة إلى بورتسودان، ومن كواليس المفاوضات السياسية إلى الغارات الجوية التي حصدت أرواح المدنيين.
من شريك اقتصادي إلى مستفيد عسكري
منذ سقوط نظام عمر البشير عام 2019، انزلق السودان إلى فوضى سياسية وانقسام عسكري. وبالنسبة لأنقرة، لم يكن السودان مجرد بلد غارق في الحرب، بل فرصة استراتيجية لتوسيع نفوذها عبر البحر الأحمر. اللواء المتقاعد عبد الرحيم إسماعيل، الضابط السابق في الجيش السوداني، قال بوضوح: “الجيش هو الضامن لمصالح تركيا في السودان. من دون الجيش، لا يمكن لأنقرة أن تحافظ على مشاريعها في الموانئ أو التعدين.”
أحد أعمدة هذه العلاقة يتمثل في السيطرة الاستراتيجية على الموانئ. إذ يسيطر الجيش السوداني على ساحل البحر الأحمر، بما في ذلك ميناء بورتسودان، الشريان الاقتصادي الأهم للبلاد. وكما أوضح خبير البحر الأحمر السوداني، الدكتور عبد الرحيم بلال: “تركيا تدرك أن من يسيطر على بورتسودان يملك مفاتيح الاقتصاد السوداني. دعم الجيش يعني الدخول إلى الميناء من الباب الأمامي.”
لكن حسابات أنقرة لم تتوقف عند التجارة البحرية. فالجيش السوداني يهيمن أيضًا على جبهات اقتصادية واسعة، خصوصًا الذهب والتعدين، حيث منحت شركات مرتبطة بالمؤسسة العسكرية عقودًا مربحة لشركات تركية مثل Turkgold Ltd. ووفقًا للباحث في قطاع التعدين خالد الطيب: “الجيش هو اللاعب الأساسي في قطاع الذهب السوداني. أي صفقة معه تفتح الباب أمام عقود تنقيب مربحة وشراكات مع الشركات التركية.”
البعد الجيوسياسي للتحالف
لم تكن الشراكة مجرد تبادل مصالح اقتصادية وعسكرية؛ بل حملت أبعادًا جيوسياسية واضحة. فقد رأت أنقرة في الجيش السوداني درعًا استراتيجيًا ضد نفوذ مصر والإمارات، اللتين قدمتا أشكالًا مختلفة من الدعم لقوات الدعم السريع المنافسة. المحلل السوداني المقيم في واشنطن، أحمد حسين، لخص المشهد بقوله: “تركيا اعتبرت الجيش حليفًا استراتيجيًا في مواجهة الكتل العربية المنافسة. الطائرات المسيّرة لم تكن أدوات عسكرية فحسب، بل رسالة سياسية إقليمية أيضًا.”
لهذه الأسباب، لم يكن تورط تركيا في السودان مجرد صفقة أسلحة عابرة. فقد أصبحت طائرات بيرقدار TB2 رمزًا قويًا لتحالف متنامٍ يربط بين إمدادات السلاح والتنازلات الاقتصادية، ويضع أنقرة في موقع الفاعل الإقليمي الطامح لتجاوز منافسيها.

مسار الصفقة… من أنقرة إلى الخرطوم
وفقًا للوثائق التي اطلع عليها فريق التحقيق، بدأت المفاوضات الأولى في ربيع عام 2022 بين ممثلين عن وزارة الدفاع السودانية وشركة الصناعات الدفاعية التركية بايكار. وقد جرت المحادثات عبر وسطاء أتراك مسجّلين في إسطنبول، من بينهم شركة مرتبطة بشكل مباشر بـ سلجوق بيرقدار، الرئيس التنفيذي لبايكار وصهر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
الاتفاق النهائي نصّ على تسليم ست طائرات بيرقدار TB2 مع محطات للتحكم الأرضي، إضافة إلى ذخائر موجهة بالليزر من طرازي MAM-L وMAM-C، إلى جانب برنامج تدريب وصيانة لمدة عامين. وبلغت القيمة الإجمالية للصفقة ما بين 150 و180 مليون دولار.
بحلول أكتوبر 2024، كانت شركة بايكار قد زوّدت السودان بما لا يقل عن ثماني طائرات بيرقدار TB2 ورؤوس حربية مرتبطة بها، بقيمة إجمالية تجاوزت 150 مليون دولار.
ولحماية الصفقة من التدقيق، جرى تغليفها قانونيًا تحت مسمى “معدات مراقبة واستطلاع”. إذ غادرت الشحنات ميناء مرسين التركي متجهة بحرًا إلى ميناء بورتسودان، حيث تم تسجيلها رسميًا على أنها “معدات إلكترونية وطائرات استطلاع زراعية”.
وقد حصل فريق التحقيق على نسخ من سجلات الجمارك السودانية تُظهر أرقام الحاويات المتطابقة مع وثائق شحن تركية مرتبطة بـبايكار، وهو دليل واضح على أن ما قُدم كأنه تجارة مدنية لم يكن سوى نقل عسكري مقنّع. الباحث في الصناعات الدفاعية التركية، مصطفى كاياجان، أوضح: “استخدام تسميات مثل المعدات الزراعية أو أنظمة المراقبة تكتيك شائع للتحايل على العقوبات. لكن مطابقة أرقام الحاويات مع سجلات شحن بايكار تجعل الإنكار شبه مستحيل.” وأضاف أن صفقة السلاح وُقّعت رسميًا من قبل ميرغني إدريس سليمان، المدير العام لـ مجمع الصناعات الدفاعية السوداني، في 16 نوفمبر 2023، أي بعد خمسة أشهر من فرض الولايات المتحدة عقوبات جديدة.
دبلوماسي أوروبي في الخرطوم أكد لفريق التحقيق أن الاتحاد الأوروبي كان على علم بوجود “شحنات حساسة” تمر عبر ميناء بورتسودان، لكنه لم يتمكن من وقفها بسبب غياب أي آلية رقابية فعالة في الميناء. وحذر قائلاً: “ما يثير القلق الأكبر هو أن هذه الطائرات لم تُسجَّل أبدًا كنُظم قتالية، بل كأدوات مدنية. وهذا انتهاك صارخ لحظر الأسلحة المفروض على السودان من قِبل الأمم المتحدة منذ عام 2004.”
الأدلة الميدانية – من السماء إلى الأرض
في ديسمبر 2023 ويناير 2024، تداولت وسائل التواصل الاجتماعي خمسة مقاطع فيديو تُظهر طائرات مسيّرة وهي تقصف أهدافًا في شمال كردفان وغرب دارفور. فريق التحقيق قام بتحليل هذه المقاطع باستخدام تقنيات تحديد الموقع الجغرافي، وأكد أن الضربات وقعت قرب الفاشر وفي أطراف الجنينة.
ظلال الطائرات الظاهرة في المقاطع، إلى جانب أنماط تحليقها، تطابقت مع خصائص بيرقدار TB2. كما أن طبيعة الانفجارات ونوع الشظايا دلّت بوضوح على ذخائر تركية الصنع من نوع MAM-L. صور الأقمار الصناعية الملتقطة في يناير 2024 أظهرت حفرًا دائرية بقطر يقارب مترين – وهو ما يتسق مع بصمة ضربات MAM-L، بحسب خبراء الأسلحة. وفي أحد مواقع الضربات، عثر المحققون على حطام معدني يحمل الرمز MAM-L/23-48291، الذي تطابق مع دفعة إنتاج لشركة روكيتسان التركية في مايو 2023.
الخبير الأوروبي في الأسلحة لوران لانييل، من الوكالة الأوروبية للمخدرات والجريمة، صرّح: “حين ترى هذه الحفر الدائرية وهذا النوع من الشظايا، لا شك. هذه ذخائر MAM-L، ولا تُستخدم إلا مع طائرات بيرقدار TB2.”
شهادات الأهالي عززت هذه الأدلة. آدم عبد الكريم (38 عامًا) من الفاشر، نجا من قصف استهدف سوقًا شعبيًا في شمال دارفور، وقال لفريق التحقيق: “سمعنا الطائرة تحوم لساعات، ثم سقطت القنبلة وسط السوق. لم يكن هناك مقاتلون – فقط نساء يشترين الخضار وأطفال يلعبون… أكثر من أربعين شخصًا قُتلوا في لحظة.”
صورة مرفقة: لقطة من فيديو يوثق الضربة، شاركها موظف في شركة أسلحة تركية مع مديره بعد تسليم الطائرات للجيش السوداني.
في هجوم آخر بتاريخ 23 ديسمبر 2023 قرب الجنينة، عثر المحققون مرة أخرى على حطام معدني بالرمز نفسه MAM-L/23-48291. سجلات التصدير في قاعدة بيانات SIPRI الأوروبية للأسلحة أكدت أنه من دفعة إنتاج صادرة عن روكيتسان في مايو 2023.
ووفق تقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، تسببت إحدى الضربات في شمال دارفور بمقتل 42 مدنيًا بينهم 12 طفلًا. شاهد آخر قال عبر الهاتف: “سمعنا الطائرة تحوم لساعات… ثم سقطت القنبلة في قلب السوق. لم يكن هناك مقاتلون، فقط بائعو خضار ونساء يشترين الطعام.”
صورة مرفقة: طائرات بيرقدار متمركزة في قواعد الجيش السوداني، استُخدمت في قصف المدنيين بالسودان.
منظمات حقوقية وعدة جهات رقابية دولية اتهمت الجيش السوداني باستخدام الطائرات التركية، إلى جانب أسلحة أخرى، لاستهداف المدنيين عمدًا في دارفور وكردفان. وأكد المراقب الدولي للأسلحة لوران لانييل أن دور هذه الطائرات لم يقتصر على العمليات العسكرية التقليدية:
“لقد استُخدمت بشكل منهجي لقصف الأسواق والقرى، في محاولة لكسر قاعدة الدعم المدني لقوات الدعم السريع.”
وأضاف: “تزايد الأدلة يشير إلى أن الجيش السوداني استخدم الطائرات المسيّرة في هجمات غير قانونية ضد مناطق مأهولة. وهذا يرقى إلى جرائم حرب.”
خرق الحظر الدولي
منذ صدور قرار مجلس الأمن 1591 عام 2004، يخضع السودان لحظر صارم يمنع تصدير الأنظمة القتالية أو التقنيات العسكرية إليه. وأي نقل لمعدات مسلّحة، مثل الطائرات المسيّرة القتالية، يعد خرقًا مباشرًا لهذا الحظر.
التقييمات المالية والبشرية تشير إلى أن صفقة بايكار بلغت نحو 150 مليون دولار، شملت ست طائرات بيرقدار TB2 وذخائر موجهة وبرامج تدريب وصيانة. قُدرت التكلفة التشغيلية بنحو 50 ألف دولار لكل ساعة طيران للطائرة الواحدة. في المقابل، تشير تقديرات المراقبين المحليين في دارفور إلى أن أكثر من 200 مدني قُتلوا منذ بدء استخدام هذه الطائرات.
الدكتور نيكولا لوران، أستاذ القانون الدولي بجامعة جنيف، أوضح:
“إذا ثبت أن بايكار أبرمت الصفقة وهي على علم باستخدام الطائرات في دارفور، فهذا يضع الشركة تحت طائلة المسؤولية الجنائية الدولية – إضافة إلى المسؤولية السياسية والأخلاقية لتركيا.”
المحامية السودانية ريهام عبد الرحمن وصفت الوضع بأنه جريمة مزدوجة:
“ليست مجرد انتهاك لقرارات الأمم المتحدة، بل مشاركة غير مباشرة في جرائم حرب ضد المدنيين. القانون الدولي واضح: المورّد يتحمل المسؤولية بمجرد علمه بالوجهة النهائية للسلاح.”
تقرير صدر في فبراير 2024 عن فريق خبراء الأمم المتحدة حول السودان أشار إلى “تزايد الأدلة على استخدام طائرات مسيّرة أجنبية في صراع دارفور”، مؤكدًا أن هذا الاستخدام يمثل خرقًا خطيرًا للحظر المفروض منذ عقدين.
الأسطول الخفي
جميع الأدلة – من وثائق الشحن وصور الأقمار الصناعية، إلى حطام الذخائر وشهادات المدنيين – تقود إلى استنتاج واحد: طائرات بيرقدار TB2 التركية لعبت دورًا حاسمًا في إذكاء الصراع السوداني.
صورة مرفقة: حطام طائرة تركية من طراز أقينجي (HALE) تابعة للقوات المسلحة السودانية، أسقطتها قوات الدعم السريع قرب الفاشر، شمال دارفور.
وتُظهر الصورة وحدة هوائي مكافئ من حطام الطائرة تحمل بوضوح ملصقًا صادرًا عن بايكار، الشركة المصنعة التركية:
-
الرقم التسلسلي (SN): 280423-09-0002
-
رقم التصنيف (NSN): 5985-27-071-3127
-
كود NCAGE: T9710 (يشير إلى منشأ تركي)
ومع استمرار الحرب السودانية، تجاوزت خيوط هذه الصفقة السرية حدود التجارة العادية، لتصبح جزءًا من مشروع جيوسياسي معقد حوّل السودان إلى حقل اختبار لصناعة السلاح التركية.
الأخطر أن هذه الطائرات لم تكن مجرد أدوات عسكرية في ساحة قتال؛ بل جسّدت واقعًا مأساويًا تحوّل فيه المدنيون – نساء وأطفال – إلى أهداف مباشرة.
كل ذلك يشكّل انتهاكًا صريحًا لقرارات مجلس الأمن ولحظر الأسلحة المفروض منذ 2004، ويطرح أسئلة عاجلة حول غياب آليات الرقابة الدولية وقدرة شركات الدفاع على التحايل على القوانين تحت غطاء التجارة المدنية والعقود الملتبسة.
المحامية السودانية ريهام عبد الرحمن شددت: “ما نشهده ليس مجرد خرق قانوني، بل مشاركة غير مباشرة في جرائم حرب. القانون الدولي لا يعفي المورّدين بمجرد علمهم بالوجهة النهائية للسلاح.”
ما يحدث في السودان يتجاوز مأساة بلد واحد. إنه مثال صارخ على كيف يُستغل ضعف القانون الدولي لتحويل النزاعات الداخلية إلى ميدان لتجريب الأسلحة الجديدة. وفي هذا الواقع القاتم، يصبح المدنيون وقودًا مستهلكًا في صراعات القوى الإقليمية والدولية.
