أدوية الموت في السودان… كيف حوّل الجيش معاناة المرضى إلى جريمة صحية؟

في قلب المأساة السودانية التي طالت كل مناحي الحياة، برزت قضية جديدة تهز الضمير الإنساني: قيام الجيش السوداني بتوزيع أدوية منتهية الصلاحية على المواطنين في عدد من المناطق المتضررة من الحرب، في وقت ينهار فيه النظام الصحي وتختفي فيه الرقابة تمامًا.
تحقيقنا، الذي استند إلى شهادات أطباء ومواطنين وتقارير ميدانية، يكشف حجم الكارثة الصحية التي تتسع بصمت، ويطرح أسئلة خطيرة حول من يقف وراء هذا الفعل ومن المستفيد منه.
الفصل الأول: الدواء… من علاج إلى سلاح
في منتصف سبتمبر الماضي، وصلت شاحنات عسكرية إلى مناطق متفرقة من ولاية الجزيرة وجنوب الخرطوم. بدا المشهد في البداية كعملية إنسانية — صناديق تحمل شعار “مساعدات طبية”، وأفراد من الجيش يوزعونها وسط حشود من المدنيين الذين أنهكتهم الأمراض.
لكن بعد أيام قليلة، بدأت الكارثة تتكشف.
تقول فاطمة أحمد، وهي ممرضة في مركز صحي محلي:
“لاحظنا أن بعض العلاجات كانت غريبة في رائحتها ولونها. عندما فحصنا التواريخ، اكتشفنا أن معظمها منتهي الصلاحية منذ أكثر من عامين.”
إحدى الأسر فقدت طفلها البالغ من العمر 7 سنوات بعد أن تناول شرابًا خافضًا للحرارة كان ضمن تلك المساعدات. الطبيب الذي فحصه أكد أن الدواء “تسبب في فشل كبدي حاد بسبب تحلّل مكوناته الكيميائية”.
الفصل الثاني: شهادات من الداخل
مصدر طبي في إدارة الإمدادات الطبية بالخرطوم — فضّل عدم الكشف عن اسمه — قال إن “جزءًا من تلك الأدوية تم استرجاعه من مخازن قديمة تابعة للجيش، كانت معدة للإتلاف”، مضيفًا أن “الضغط الشعبي لتقديم مساعدات سريعة دفع بعض الضباط إلى إعادة توزيعها دون مراجعة.”
وقال المصدر إن “الجيش حاول من خلال هذه الخطوة كسب تعاطف المجتمعات المحلية التي بدأت تتململ من الوضع المعيشي المتدهور”.
وفي تسجيل صوتي حصلت عليه وحدة التحقيقات، يُسمع ضابط ميداني وهو يوجّه عناصره قائلاً:
“الناس عايزة تشوفنا بنساعدهم، ما مهم الدواء دا صالح ولا لا، المهم يشوفونا واقفين معاهم.”
الفصل الثالث: انهيار النظام الصحي وغياب الرقابة
منذ اندلاع الحرب، أغلقت أكثر من 70% من المستشفيات والمراكز الطبية في مناطق النزاع، وفقًا لتقديرات منظمة الصحة العالمية.
الكوادر الطبية نزحت، والمخزون الدوائي تلاشى، لتبقى البلاد فريسة للأوبئة مثل الكوليرا وحمى الضنك والملاريا.
في ظل هذا الانهيار، لم يعد هناك أي جهاز وطني قادر على مراقبة جودة الأدوية أو الإشراف على توزيعها، ما جعل المساعدات – سواء المحلية أو الأجنبية – تمر عبر قنوات عسكرية أو قبلية دون فحص أو اعتماد.
الفصل الرابع: الجريمة الصامتة
وفقًا لتحليل أجراه أطباء في ولاية النيل الأبيض، فإن استخدام الأدوية منتهية الصلاحية قد يسبب:
-
فشلاً كلوياً أو كبدياً في غضون أيام.
-
تسممًا دوائيًا نتيجة تحلل المواد الفعالة.
-
ضعف المناعة وفقدان فعالية العلاج ضد الأمراض المعدية.
الخبير الصيدلي الدكتور محمد إدريس وصف ما حدث بأنه “إبادة صحية ببطء”، مضيفًا:
“حين توزع الأدوية الفاسدة في بيئة ينتشر فيها المرض، فأنت لا تساعد المريض على الشفاء، بل تسرّع موته. إنها جريمة ممنهجة وليست خطأ فرديًا.”
الفصل الخامس: صمت رسمي وتحقيق غائب
حتى لحظة إعداد هذا التحقيق، لم يصدر أي تعليق رسمي من وزارة الصحة أو القيادة العسكرية بشأن الحادثة، رغم تداول صور ومقاطع فيديو توثق تواريخ انتهاء صلاحية الأدوية الموزعة.
ناشطون سودانيون أطلقوا حملة عبر مواقع التواصل تحت وسم #أدوية_الجيش_القاتلة، مطالبين بفتح تحقيق دولي.
لكن وفقًا لمصادر حقوقية، “هناك ضغوط من داخل المؤسسة العسكرية لمنع أي تحقيق داخلي خشية انكشاف سلاسل الإمداد والمسؤولين عنها”.
الفصل السادس: مسؤولية دولية
منظمة “أطباء بلا حدود” حذّرت في بيان غير رسمي من أن “توزيع أدوية غير صالحة يرقى إلى جريمة حرب إذا تم عن قصد في مناطق نزاع.”
وطالبت الأمم المتحدة بإرسال بعثة طبية مستقلة للتحقق من سلامة المساعدات التي تُوزع باسم الجيش، مؤكدة أن “ما يجري في السودان لم يعد مجرد أزمة إنسانية، بل انتهاك لحق الإنسان في الحياة.”
حين يصبح المرض تجارة سياسية
توزيع أدوية منتهية الصلاحية في السودان ليس مجرد خطأ إداري، بل جزء من سلوك ممنهج يخلط الإغاثة بالدعاية العسكرية.
في بلد يموت فيه الناس كل يوم بصمت، يتحول الدواء إلى وسيلة للسيطرة، والمريض إلى ضحية في حرب لا تميّز بين القنبلة والقرص الدوائي.
ويبقى السؤال الكبير:
من يحاسب من، في بلد يوزّع فيه الجيش الموت على شكل علاج؟
