حين تدمّر الحرب اللغة قبل أن تدمّر المدن
الحروب تعيد رسم خرائط الجغرافيا، غير أن أثرها الأعمق يتجلى في اللغة، في السودان سبق تآكل اللغة السياسية اتساع الدمار المادي، المفردات فقدت دلالاتها، والمصطلحات تحولت إلى أدوات تعبئة، والخطاب العام انزلق من فضاء النقاش إلى منطق التحريض، حتى صار الكلام نفسه ساحة صراع.
قبل اندلاع القتال، كانت اللغة السياسية تعاني هشاشة واضحة، ومع اشتعال الحرب انتقلت هذه الهشاشة إلى تفكك شبه كامل، الكلمات التي يفترض أن توضّح المواقف غدت وسيلة لإخفائها، مفاهيم مثل السيادة، والأمن، والوطنية، والاستقرار، جرى تحميلها معاني متناقضة تُستدعى حسب اللحظة، من دون مرجعية ثابتة، لفظة “الخيانة” أُلصقت بكل من طالب بوقف إطلاق النار، و”الوطنية” جرى ربطها بتأييد الحرب، وحتى “السلام” انقلب في بعض السياقات إلى تهمة تُستخدم لإسكات أصحابها.
ما يجري اليوم يستحضر ما كتبه فيكتور كلمبرر عن الحروب الأهلية، إذ تصبح اللغة الضحية الأولى، ثم تتآكل الحقيقة، ويُترك الإنسان في مواجهة عالم فقد قدرته على التسمية الدقيقة.
في هذا المناخ، تراجعت القدرة على التمييز بين الوصف والتبرير، العنف توقف عن كونه موضوع نقاش سياسي، وجرى تقديمه بوصفه لغة بديلة عن السياسة نفسها، الخطاب العسكري تمدد ليغطي المجال العام، فأصبح القاموس الأمني الإطار الذي تُقرأ عبره الأحداث وتُقاس به المواقف، ومع تسارع وسائل التواصل لم يعد تفكك اللغة حبيس البيانات الرسمية، بل صار يوميًا وفوريًا، الشتيمة تحل محل الحجة، والصورة المعدّلة تحل محل الشهادة، والوسم يصنع “حقيقة” قبل أن يصف واقعًا.
امتد هذا التحول إلى نسيج المجتمع، الناس وجدوا صعوبة متزايدة في التعبير عن معاناتهم خارج مفردات الاصطفاف، الألم الفردي ذاب داخل خطاب جماعي صلب يطالب بالولاء أكثر مما يتيح مساحة للسؤال، فتراجعت مساحات التعاطف، وتقدّم منطق التصنيف، حيث يُنظر إلى الإنسان من زاوية موقفه قبل إنسانيته.
تفكك اللغة السياسية أضعف أفق النقاش العام، الحوار تحول إلى تبادل اتهامات، والرأي المختلف وُضع في خانة العداء، وفي ظل هذا الواقع تعثرت أي محاولة لبناء سردية مشتركة عمّا جرى، أو لتخيّل مخارج واقعية من الأزمة.
إعادة بناء السياسة في السودان تمر عبر إعادة بناء اللغة، استعادة المعنى شرط أساسي لاستعادة الفعل المدني، لغة قادرة على الوصف الدقيق، والمساءلة، والاعتراف بالتعقيد، تفتح للمجتمع أفق تصور مستقبل مختلف، هذه مهمة النخب وكل من يكتب تغريدة، أو يشارك منشورًا، أو يتحدث في مجلس، اختيار الكلمات بعناية، ورفض التبسيط الذي يمحو التعقيد الإنساني.
الحرب تنتصر فعليًا حين تصادر الكلمات قبل المدن، ومعركة استعادة الدولة تبدأ من استعادة لغة تشرح الواقع وتكشفه، بدل أن تعتم عليه وتختزله.




