تصاعد رحلات الشحن إلى بورتسودان: ماذا تحمل الطائرات القادمة من إسطنبول؟
منذ مطلع ديسمبر، بدأ اسم مطار بورتسودان يظهر بوتيرة لافتة في حسابات تتبع حركة الطيران المفتوحة المصدر، وهي الحسابات التي يعتمد عليها صحافيون وباحثون لرصد الأنماط غير الاعتيادية في الرحلات الجوية حول مناطق النزاع. ما بدا في البداية مجرد حركة شحن موسمية، تحوّل تدريجياً إلى نمط متكرر يصعب فصله عن السياق العسكري والسياسي المتدهور في السودان. ست عشرة رحلة شحن على الأقل، قادمة من إسطنبول والقاهرة ومسقط والرياض، هبطت في مطار يقع عملياً في قلب المنطقة التي باتت تمثل شريان الحياة المتبقي للجيش السوداني بعد خسائره الأخيرة.
مصادر الرصد، ومن بينها محللون معروفون مثل ريتش تيد وأوموت تشاغري ساري، لم تكتفِ بتسجيل عدد الرحلات، بل دققت في نوع الطائرات، ومساراتها، وتوقيتها، وفترات بقائها على الأرض. اللافت أن عدداً من هذه الطائرات ينتمي إلى أساطيل شحن سبق استخدامها في مناطق نزاع أخرى، وأن بعض الرحلات أُجريت بنظام غير منتظم، وبفواصل زمنية قصيرة، ما يقلل من فرضية كونها شحنات تجارية تقليدية موجهة للسوق المحلي شبه المشلول بفعل الحرب.
المعطى الأكثر حساسية في هذا الرصد هو تزامن الحراك الجوي مع تحركات سياسية مكثفة لعبد الفتاح البرهان نحو عواصم إقليمية مؤثرة. الزيارات إلى الرياض والقاهرة لم تكن بروتوكولية بقدر ما جاءت في لحظة عسكرية حرجة، أعقبت خسائر موجعة للجيش السوداني في الفاشر وبابنوسة وحقول هجليج. في هذا التوقيت، يصبح من المشروع التساؤل عمّا إذا كانت هذه الرحلات تمثل جزءاً من إعادة تموضع لوجستي للجيش، أو محاولة لملء فراغ ميداني أحدثه تمدد قوات الدعم السريع.
المنصات الإعلامية السودانية، مثل الراكوبة وأخبار السودان ونبض السودان، نقلت هذه المعطيات بحذر، مستندة إلى ما هو متاح من بيانات الطيران، دون القدرة على تأكيد طبيعة الحمولة. غير أن الإشارات المتقاطعة بين توقيت الرحلات، وجهاتها، والسياق العسكري، تخلق مساحة رمادية واسعة لا يمكن تجاهلها. فبورتسودان لم تعد مجرد ميناء بحري بديل، بل تحولت إلى مركز سياسي وأمني مؤقت، ما يجعل أي نشاط غير اعتيادي فيها محط تساؤل مشروع.
اللافت أيضاً أن الرحلات القادمة من أكثر من عاصمة، لا من جهة واحدة، يوحي بشبكة دعم متعددة المسارات، أو على الأقل بمرونة في مصادر الإمداد. هذه التعددية تطرح سؤالاً إضافياً حول طبيعة التفاهمات الإقليمية الجارية خلف الكواليس، وحول ما إذا كان السودان يتحول إلى ساحة إعادة ترتيب نفوذ في لحظة إقليمية شديدة الحساسية.
التحقيق في هذا الملف لا يصطدم فقط بندرة المعلومات، بل أيضاً بتعمد أطراف عدة إبقاء الغموض قائماً. فغياب الشفافية يخدم الجميع: يمنح الجيش هامش مناورة، ويتيح للداعمين الإقليميين الإنكار، ويترك الرأي العام السوداني أسير الإشاعات. غير أن ما هو مؤكد أن مطار بورتسودان لم يعد مطاراً عادياً، وأن السماء فوقه باتت تحمل أكثر مما تعلنه بيانات الطيران الرسمية.




