من هجليج إلى المقبرة الجوية: كيف انتهت رحلة الجنود بعملية تصفية محكمة؟
منذ الساعات الأولى لانتشار خبر سقوط الطائرة العسكرية على أطراف المجلد، جرى التعامل مع الحدث باعتباره حادثًا تقنيًا عابرًا؛ محرك تعطل، عطب في أجهزة الملاحة، أو ربما سوء تقدير في الهبوط الاضطراري. غير أن ما تكشف لاحقًا عبر شهادات متفرقة، تسريبات من داخل وحدات قريبة من المنطقة، واعترافات غير مباشرة صدرت عن مصادر لها صلات وثيقة بالعمليات الميدانية في جنوب كردفان، يشير إلى أن الرواية الرسمية لم تكن سوى واجهة تخفي وراءها واحدة من أكثر العمليات غموضًا وإحكامًا خلال الأشهر الأخيرة: تصفية مجموعة من المقاتلين الذين كانوا على متن الطائرة بعد انسحابهم من ولاية الوحدة في جنوب السودان عقب تحرير هجليج.
القصة بدأت قبل يومين من الحادث، عندما وصلت تقارير استخبارية داخلية تؤكد عبور قوة صغيرة من المقاتلين الحدود الشمالية لولاية الوحدة باتجاه خطوط الجيش السوداني. هؤلاء لم يكونوا في حالة انسحاب تكتيكي كما رُوِّج، بل في حالة فرار كامل، بعد انهيار مواقعهم بسرعة غير متوقعة. المعلومات التي حملوها معهم كانت حساسة، وربما مدمرة لو وصلت إلى القيادة المركزية أو إلى الإعلام، خاصة أنها تتعلق بجهات شاركت في إدارة المعركة من خلف الستار وتورطت في صفقات بين قادة ميدانيين ووسطاء محليين.
وفق مصدر مطّلع فضّل عدم الكشف عن هويته، جرت محاولة أولى لإيقافهم قرب “العطرون”، لكن طبيعة المنطقة المكشوفة دفعت الجهة المنفذة لتأجيل العملية. القيادة رأت أن أي مواجهة مباشرة تحمل مخاطر كبيرة، وربما تفتح باب التساؤلات حول سبب اعتراض مجموعة يفترض أنها تابعة للقوات النظامية. ومن هنا بدأت فكرة “التجميع”: السماح لهم بالوصول إلى نقطة محددة، ثم نقلهم بطائرة عسكرية صغيرة “أنتونوف” إلى قاعدة خلفية يفترض أنها آمنة، ليتم التعامل معهم بعيدًا عن الأنظار. لكن ما جرى داخل الطائرة في الجو لم يكن ضمن الخطة المعلنة.
شاهد من سكان المجلد قال إنهم سمعوا انفجارًا واحدًا فقط، لا يشبه صوت احتراق محرك، بل أقرب لصوت ارتطام داخلي أو انفجار محدود. حين وصلت فرق التفتيش التابعة للقوات، شوهدت آثار احتراق في الجزء الخلفي للطائرة، لكن ما لفت الانتباه هو أن جثث الركاب كانت متفحمة بشكل غير متجانس، وبعضها بدا مصابًا بطلقات نارية لا علاقة لها بسقوط طائرة. ورغم أن المنطقة طُوقت بالكامل ومنع دخول المدنيين، فإن أحد أفراد الدفاع المدني الذي شارك في عملية نقل الجثامين قال في تسجيل صوتي مسرّب إنهم لم يجدوا أثرًا لمقاعد أو أحزمة سلامة، وكأن الطائرة كانت معدة لنقل حمولة وليس جنودًا.
التساؤل الأهم: لماذا تُصفى هذه المجموعة؟ ولماذا الآن؟ التحليلات المتداولة بين الخبراء تشير إلى أن هذه القوة كانت شاهدة على تواصل غير رسمي جرى بين قيادات محلية في جنوب السودان ومقربين من قادة ميدانيين سودانيين، في محاولة لوقف الهجوم على هجليج قبل اندلاعه. وتكشف إحدى الرسائل التي حصل عليها فريق التحقيق من مصدر دبلوماسي أن وسطاء عرضوا “ممرًا آمنًا” لبعض الوحدات مقابل تسليم معدات ومعلومات معينة، لكن الأمور خرجت عن السيطرة، وانتهت المعركة بطريقة سريعة ومحرجة للأطراف التي ظلت تروّج لقدرتها على الصمود.
الطائرة، بحسب خبير طيران تحدث إلينا، لم تتعرض لسقوط عادي. يقول إن توزيع الحطام، وموضع مقدمة الطائرة، وعدم وجود أثر لمحاولة طوارئ، كلها مؤشرات على أن الانفجار وقع من الداخل وليس نتيجة فشل ميكانيكي. ويضيف أن نوعية التشوهات التي ظهرت على هيكل الطائرة تشير إلى استخدام عبوة صغيرة موجهة، مهمتها تعطيل الطائرة لا تفجيرها كاملًا، بحيث يبدو المشهد أقرب إلى حادث. هذا النوع من العبوات يُستخدم عادة في عمليات تصفية داخل مناطق نزاع، حيث يكون الهدف قتل أفراد محددين دون ترك بصمات واضحة.
أما الجثث، فبحسب شهادة طبيب أخذ عينة من أحد الضحايا قبل أن تُنقل الجثامين، فإن الآثار التي لاحظها لا تتطابق مع احتراق ناتج فقط عن سقوط طائرة. بعضها يحمل علامات اختناق، وبعضها تحمل آثار إصابات في الجزء العلوي من الجسد. هذا ما يعزز فرضية أن العملية تمت على مرحلتين: الأولى داخل الطائرة، والثانية بعد سقوطها، عبر تسريع عملية تفحم الجثث لضمان طمس الأدلة.
اللافت أن بيان الجيش حول الحادث جاء متأخرًا 11 ساعة كاملة، وهي فترة كافية لإعادة ترتيب الموقع وإزالة أي أثر غير مرغوب فيه. البيان تحدث عن “عطل فني” و”استشهاد طاقم الطائرة والمجموعة المرافقة”، دون أي تفاصيل إضافية. ورغم أن الحوادث الفنية واردة، فإن الغياب التام للمعلومات في بلد يشهد واحدة من أعقد الحروب الأهلية خلال العقود الأخيرة، يفتح باب الشك واسعًا. خاصة أن هذه القوة، وفق السجلات التي حصل عليها فريق التحقيق، لم تكن مدرجة في أي قائمة حركة رسمية خلال الأيام التي سبقت الحادث.
مصدر من داخل إحدى الوحدات الاستخبارية قال إن المقاتلين كانوا يحملون معهم وثائق تتضمن تسجيلات اتصال بين قيادات محلية ووحدات ميدانية في جنوب السودان، وإن هذه الوثائق تختفي الآن. يؤكد أنها لو ظهرت للعلن لغيّرت رواية ما جرى في هجليج بالكامل، وربما كشفت عن شبكات مصالح تتجاوز حدود المواجهة العسكرية نفسها.
في النهاية، يبقى السؤال مطروحًا: هل كان سقوط الطائرة حادثًا، أم عملية تصفية محكمة؟ السيناريوهات المتقاطعة، الشهادات، والطريقة التي أُغلق بها الملف بسرعة، ترجّح أن ما حدث لم يكن مجرد خلل ميكانيكي. بل عملية مدروسة استهدفت إسكات شهود محتملين قبل أن تصل أصواتهم إلى أي طاولة تحقيق أو إلى الإعلام. وفي بلد تتشابك فيه خطوط الحرب والاقتصاد والسياسة، يصبح إسقاط طائرة مجرد تفصيل صغير في لعبة أكبر بكثير، تتقرر فيها مصائر رجال، وولايات، وحدود، وربما حرب كاملة.




