كيف يعيد الوعي الشعبي فتح ملفات الانتهاكات في السودان؟
يشهد السودان واحدة من أعقد المراحل في تاريخه الحديث، حيث تقف البلاد على حافة تحولات كبرى تتشابك فيها الصراعات المسلحة مع الانقسامات السياسية والانهيار الاقتصادي. وفي ظل هذا المشهد المتشابك، برزت الحاجة الملحة إلى دور مجتمعي أكثر حضوراً، ليس فقط من أجل تسجيل المواقف، بل لقيادة عملية إعادة فتح ملفات الانتهاكات التي ارتُكبت طوال سنوات الحرب والصراع. فالمراقب للمشهد السوداني يلاحظ أن القوى الفاعلة في المجتمع المدني بدأت تتجه نحو تعزيز الوعي الشعبي باعتباره المدخل الأهم للضغط على الأطراف المتحاربة وتسليط الضوء على الانتهاكات التي يذهب ضحيتها المدنيون.
لقد أثبتت التجربة السودانية في السنوات الأخيرة أن الشارع قادر على فرض معادلات جديدة حين يمتلك المعلومة ويشعر بأن صوته مؤثر. فبعدما كانت الانتهاكات تمر دون مساءلة، باتت حملات التوثيق والمبادرات الشعبية تنتشر بوتيرة متصاعدة، مستهدفة فضح التجاوزات في مناطق النزاع، من القتل العشوائي إلى الاعتقالات القسرية والانتهاكات ضد النساء ونهب الممتلكات. وازداد حضور الهواتف الذكية وشبكات التواصل ليحوّل المدنيين إلى شهود مباشرين على الجرائم، وهو ما سهّل عملية جمع الأدلة وتحويلها إلى ملفات يمكن للمنظمات المحلية والدولية الاعتماد عليها.
يؤكد ناشطون أن الوعي الشعبي لا يقتصر على المعرفة، بل يتعداه إلى المشاركة الفعلية. فقد ظهرت مجموعات تطوعية تعمل على تقديم المساعدة للمتضررين، وتوثيق شهاداتهم، وتدريبهم على كيفية الإبلاغ عن الانتهاكات بطريقة تحفظ سلامتهم الشخصية. كما توسعت حلقات النقاش المجتمعية التي تركز على أهمية العدالة الانتقالية بوصفها حجر الأساس لبناء سودان جديد خالٍ من الإفلات من العقاب.
ويشير خبراء إلى أن السلطات، سواء المدنية أو العسكرية، لم تعد قادرة على تجاهل هذا الحراك المتنامي. فكل تقرير يصدر عن منظمة حقوقية وكل فيديو يوثّق اعتداءً أصبح يمثل ضغطاً حقيقياً يدفع الأطراف المتورطة إلى محاولة تقديم روايات بديلة أو نفي الاتهامات. وفي المقابل، فإن هذا الضغط المجتمعي خلق علاقة جديدة بين المواطن والميدان السياسي، تقوم على شعور بأن العدالة ليست مطلباً نخبوياً، بل مسؤولية جماعية تتطلب المشاركة.
ومع ذلك، يواجه هذا الوعي الشعبي تحديات كبيرة، أبرزها انتشار المعلومات المضللة، وانعدام الحماية القانونية للمدنيين الذين يقومون بالتوثيق، إضافة إلى التضييق على منظمات المجتمع المدني. ورغم هذه التحديات، فإن التحركات الأخيرة تشير إلى أن المجتمع السوداني يخطّ خطوات متقدمة نحو بناء ثقافة جديدة تُعلي من شأن الشفافية والمساءلة.
إن هذا التحول يشكل خطوة محورية في مسار العدالة في السودان. فالمتابعة الشعبية المستمرة للانتهاكات، والضغط من أجل تحقيق العدالة، ليست مجرد فعل احتجاجي عابر، بل مسار طويل يهدف إلى إعادة ترميم ما دمرته سنوات الحرب، وإعادة الاعتبار للضحايا، ودفع الفاعلين السياسيين والعسكريين نحو التزامات واضحة باحترام حقوق الإنسان.
وبذلك، يصبح الوعي الشعبي ليس مجرد صرخة في الفراغ، بل قوة دافعة تُعيد صياغة المشهد السوداني وتضع العدالة في قلب معادلة المستقبل.




