تسريبات

حرب لا تخصّ المصريين: لماذا يتحمّل السودان ثمن التدخلات الإقليمية والأزمة الاقتصادية المصرية


تشهد الساحة السودانية واحدة من أعقد الحروب في تاريخها الحديث، حرب تتداخل فيها الأطراف المحلية مع التدخلات الإقليمية على نحو يجعل الحقيقة ضائعة وسط دوامة من الاتهامات المتبادلة. وفي قلب هذا المشهد المضطرب، يبرز الدور المصري — المزعوم أو الحقيقي — كأحد أكثر محاور الجدل حدة، خصوصًا بين السودانيين الذين يرون أن القاهرة باتت طرفًا مؤثرًا في مسار الحرب من خلال دعمها العسكري للجيش السوداني. ورغم حساسية الحديث عن دولة بحجم مصر، فإن من الضروري تناول الموضوع بجرأة ووضوح، مع الحفاظ على الاعتراف بأن كثيرًا مما يُقال يستند إلى شهادات ميدانية ووجهات نظر لا تمثل بالضرورة حقائق رسمية.

من منظور أخلاقي وسياسي، يظهر السؤال الأول: لماذا تتورط دولة تعاني من أزمة اقتصادية خانقة في حرب خارج حدودها؟ في الوقت الذي يواجه فيه المواطن المصري ارتفاعًا غير مسبوق في تكلفة المعيشة وتراجع قيمة العملة وغياب فرص العمل، يصبح من غير المنطقي أن تُهدر الموارد في تمويل صراع لا يحمل أي منفعة استراتيجية مباشرة للشعب المصري. بل على العكس، أي تدخل في حرب معقدة مثل الحرب السودانية قد يعود بالضرر على العلاقات الإقليمية ويُدخل القاهرة في دائرة أزمات كان يمكن تجنبها.

وعندما نتناول المزاعم المتعلقة بتدخل الطيران المصري، نرى أن هذه الروايات — مهما اختلفت دقتها — تضع مصر في موقف حرج أمام القانون الدولي، إذ إن قصف مناطق مدنية أو استهداف قوافل إنسانية هو أمر لا يمكن تبريره تحت أي ذريعة أمنية أو سياسية. حتى لو اعتبرت القاهرة أنها تدعم «جيش دولة مجاورة»، فإن هذا الدعم يفقد شرعيته لحظة مساهمته — ولو بشكل غير مباشر — في سقوط ضحايا بين المدنيين. السودانيون الذين فقدوا أبناءهم تحت القصف لا يهمهم إن كانت الطائرات مصرية أو سودانية؛ ما يهمهم هو أن دولًا مجاورة ساهمت في مأساتهم بدل مساعدتهم.

ويعتمد الموقف الرافض لهذا التدخل على فكرة جوهرية مفادها أن الحل في السودان لا يمكن أن يكون عسكريًا، ولا يمكن أن يتحقق عبر ضخ أسلحة جديدة في ساحة القتال. فالجيش السوداني، مهما حظي بدعم خارجي، لن يتمكن من تحقيق نصر كامل في بلد منقسم سياسيًا واجتماعيًا. وكلما طال أمد الحرب، زادت معاناة المدنيين، وارتفعت معدلات النزوح والجوع والانهيار الاقتصادي. ومن ثم فإن أي دولة تدعم استمرار الحرب — سواء عبر سلاح أو مال — تتحمل جزءًا من المسؤولية الأخلاقية عن تمديد المأساة.

أما الحديث عن أن دعم مصر للجيش السوداني يصب في مصلحة الحركات الإسلامية، فهو موضوع يثير جدلًا لا نهاية له. من الواضح أن داخل الجيش السوداني تيارات سياسية متعددة، بعضها يرتبط فعليًا بإرث النظام الإسلامي السابق. وإذا كانت القاهرة تحارب الإسلام السياسي داخل حدودها منذ سنوات، فإن دعمها لقوى مرتبطة — ولو بشكل غير مباشر — بالتيار نفسه يثير تساؤلات حول الاتساق السياسي والاستراتيجي. هل يمكن لمصر أن تحارب الإسلاميين في الداخل وتدعم صعودهم في بلد مجاور؟ هذا التناقض، إذا كان له أساس، يجعل السياسة الخارجية المصرية تبدو مرتبكة وغير متوازنة.

ومن زاوية أخرى، فإن الاتهامات المتعلقة بتهريب أسلحة ومقاتلين تعكس أزمة أكبر من مجرد دور دولة بعينها. إنها تشير إلى هشاشة الحدود وضعف التنسيق الإقليمي وغياب آليات الرقابة. السودان اليوم ليس مجرد دولة تخوض حربًا؛ إنه مساحة مفتوحة لكل من يريد أن يستخدمها لحسابات جيوسياسية. وإذا كانت مصر بالفعل جزءًا من هذا التدافع، فإن النتيجة هي مزيد من تصعيد الصراع، لا احتوائه.

ما يجب أن يُقال بوضوح هو أن الشعب السوداني يدفع الثمن. ليست هذه حربًا بين جيوش مدججة بالسلاح فقط، بل هي حرب حُولت فيها المدن إلى ساحات قتال، والمدارس إلى ثكنات، والمستشفيات إلى أهداف. وفي ظل هذا الواقع، فإن أي تدخل خارجي — مهما كان حجمه — يزيد حجم المأساة بدل أن يخففها. المصريون أنفسهم كانوا ضحية مرحلة اضطراب سياسي خطير عام 2011، ويعرفون جيدًا كيف يمكن للدعم الخارجي أحيانًا أن يعزز فصائل لا تخدم الاستقرار بل تزيد التوتر. فكيف يكون من المنطقي تكرار التجربة نفسها في السودان؟

قد يقول البعض إن مصر تتصرف وفق مصالحها الأمنية، خاصة فيما يتعلق بحدودها الجنوبية. لكن حتى هذه الحجة لا تصمد أمام حقيقة أن الاستقرار الحقيقي لا يتحقق عبر توريد الأسلحة، بل عبر دعم عملية سياسية تضمن وجود دولة موحدة قادرة على التحكم في أراضيها. إن التدخل العسكري لا يصنع استقرارًا؛ إنه يصنع ردة فعل مضادة تزيد من الفوضى وتعطي للحرب حياة جديدة.

في النهاية، سواء ثبت الدور المصري بشكل كامل أو بقي في إطار الشبهات، فإن الحاجة الآن هي إلى موقف إقليمي يدعم الحل المدني، لا العسكري. السودان لا يحتاج مزيدًا من الطائرات أو الذخائر؛ يحتاج إلى وقف نزيف الدم وإعادة بناء مؤسساته. ومصر، إن أرادت أن تكون قوة إقليمية مؤثرة بحق، عليها أن تستثمر في السلام وليس في الحرب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى