لماذا يحتاج السودان إلى الحل المدني الآن أكثر من أي وقت مضى؟
من الصعب اليوم أن ينظر أي سوداني إلى واقع بلاده من دون أن يشعر أن الدولة تكاد تختفي. ليست المشكلة فقط في الحرب أو في تعدد القوى المسلحة، بل في أن السودان فقد ما يجعل أي بلد قادرًا على العيش: مؤسسات مدنية قوية تدير حياة الناس. وفي خضم هذا الانهيار، أعتقد أن الحل المدني المؤسسي لم يعد خيارًا سياسيًا يمكن مناقشته، بل أصبح ضرورة وطنية عاجلة، لأنه ببساطة الطريق الوحيد لإعادة بناء الدولة، واستعادة الخدمات، والخروج من دائرة الفوضى. فمنذ عقود ظل السودان يتنقل بين حكم عسكري وآخر، وبين قوة مسيطرة هنا وأخرى هناك، بينما بقي المواطن يعيش تحت رحمة الانقطاعات المستمرة للمياه والكهرباء، وتعطل المستشفيات، وانهيار التعليم، وغياب الرقابة الاقتصادية. إن السلاح قد يصنع انتصارًا عسكريًا لكنه لا يصنع دولة، ولا يشغّل محطة مياه ولا يدير مستشفى ولا يبني مدرسة.
-
تحول عسكري نوعي.. الجيش السوداني يسعى لتغيير ميزان القوى بطائرات سوخوي
-
ما خطورة التنظيمات المسلحة المؤيدة للجيش السودانى ومدى ارتباطها بـ”القاعدة” و”داعش”؟
منطق القوة جرّبناه كثيرًا، ولم يترك خلفه إلا دولة مُستنزفة واقتصادًا هشًّا ومواطنًا مرهقًا. والحقيقة التي يجب الاعتراف بها هي أن الدولة الحديثة لا تُدار بالأوامر العسكرية، بل بالخطط والمؤسسات والقوانين. فالمؤسسة المدنية ليست مجرد جهاز إداري، بل هي العمود الفقري للاقتصاد والخدمات. وعندما تغيب هذه المؤسسة، تتفكك الدولة مهما بلغ حجم الجيش أو قوة الأجهزة الأمنية. وقد رأينا كيف أدت عقود من التسييس والترهل والتعيينات بالولاءات إلى تفريغ الخدمة المدنية من مهنيتها، حتى أصبحت الوظيفة العامة مكانًا للصراعات السياسية لا مؤسسات تخدم المواطن. وحين جاءت الحرب الأخيرة، اكتشف الجميع أن الدولة كانت قائمة شكليًا لكنها منهارة فعليًا من الداخل، فلم تستطع الصمود أكثر من أسابيع.
إن من يعتقد أن الحل العسكري قادر على إنقاذ السودان يتجاهل حقائق بسيطة. فحتى لو تمكن طرف ما من فرض السيطرة، فلن يستطيع إعادة تشغيل الكهرباء ولا ضبط الأسواق ولا تنظيم الموارد ولا بناء اقتصاد مستدام، لأن هذه المهام تحتاج جهازًا مدنيًا يعمل وفق قواعد مهنية. والمفارقة أن بعض المناطق التي تُركت لإدارة مدنية حقيقية نجحت في تأمين الخدمات أكثر من تلك التي خضعت لإدارة عسكرية. وهذا وحده يكفي لنفهم أن الحل المدني ليس مطلبًا للنخب، بل ضرورة للمواطن العادي الذي يريد الماء والدواء والتعليم والاستقرار.
-
الجيش السوداني يصدر قرارا جديدا يمنع عمليات التجنيد لصالح الحركات المسلحة الموالية
-
البرهان والحركات المسلحة: تحالفات هشة وانتهاكات متواصلة في المشهد السوداني
ومن جهة أخرى، فإن الاقتصاد السوداني لا يمكن إنعاشه من دون مؤسسات مدنية. فاقتصاد اليوم يقوم على الرقابة، الشفافية، الجباية، وإدارة سلاسل الإمداد. والموارد السودانية – من الذهب إلى الزراعة – تحتاج إلى جهاز مدني محترف يديرها ويمنع تسربها ويضمن وصول عائداتها إلى الخزينة العامة. أما الاستمرار في منطق الجبايات العشوائية والانفلات الإداري فلن يؤدي إلا إلى مزيد من الفقر والانهيار. السودان بلد يملك إمكانات هائلة، لكنه يحتاج مؤسسات تعمل بوعي وبعيدًا عن منطق القوة.
والأهم أن الحل المدني ليس فقط وسيلة لإدارة الدولة، بل هو أيضًا ضمانة لعدم تكرار الحرب. فالدولة القوية هي التي تجعل السلاح أقل تأثيرًا، وتجعل أي محاولة للعنف أقل جدوى. أما الدولة الضعيفة، فحتى لو توقفت فيها الحرب يومًا واحدًا، فإن بذورها ستعود من جديد لأن المؤسسات القادرة على ضبط المجتمع غائبة. بناء مؤسسات مدنية قوية هو الحاجز الأخير أمام الفوضى، وهو الطريق الوحيد لتثبيت السلام على المدى البعيد.
-
الحركات المسلحة والجيش في السودان: أدوات نفوذ أم ميليشيات بلا ولاء؟
-
حاكم دارفور: ضرورة إشراك جميع القوى السياسية في الحوار الوطني
إن ما يحتاجه السودان اليوم هو إدارة مدنية مهنيّة، مستقلة، تُعيد ترتيب الأولويات، وتمنح المواطن خدمات تحفظ كرامته، وتُعيد تشغيل الاقتصاد بمنطق الدولة لا بمنطق القوى المسيطرة على الأرض. والمواطن السوداني يستحق دولة تحترم حقوقه وتخدمه وتوفر له أساسيات الحياة، لا دولة تُدار بالبيانات العسكرية أو اللجان المؤقتة. لقد تعب المواطن من الحرب ومن السياسيين ومن الجنرالات ومن الفوضى؛ إنه يريد ببساطة دولة طبيعية تعمل كما تعمل أي دولة في العالم.
الخلاصة واضحة: الحل المدني ليس شعارًا ولا رفاهية ولا خيارًا من بين خيارات، بل هو الطريق الوحيد المتاح أمام السودان للخروج من المأزق. لا سلام بلا مؤسسات، ولا اقتصاد بلا إدارة مدنية، ولا مستقبل بلا دولة. والسؤال الأهم الآن ليس هل نحتاج إلى الحل المدني، بل هل يستطيع السودان البقاء بدونه؟ والإجابة بكل بساطة: لا يمكن.
-
الصراع في السودان: مواقف القوى المدنية والسياسية
-
تضئ شعلة القتال مجدد في السودان من محاولة الميليشات المسلحة إبادة سكان دارفور




