تسريبات

اقتصاد الظل وشبكات التهريب… كيف تدار دولة السودان من خارج الدولة؟


لا توجد دولة يمكن أن تصمد طويلًا حين تتحول مؤسساتها إلى جزر معزولة، ويصبح اقتصادها الرسمي مجرد قشرة رقيقة تغطي شبكة واسعة من الأنشطة المحجوبة عن القانون. في السودان، لم يعد اقتصاد الظل مجرد هامش يتحرك عند أطراف الدولة، بل صار مركزًا مستقلًا للسلطة، يمول الحرب، ويعطل بناء المؤسسات، ويستنزف ما تبقى من القدرة الاقتصادية للمجتمع. ما يجري اليوم ليس مجرد توسع في التهريب أو ازدهار للسوق السوداء، بل تحوّل كامل لمسارات الاقتصاد نحو قنوات موازية لا تخضع لأي رقابة، الأمر الذي جعل الدولة نفسها رهينة لمصالح شبكات اقتصادية مرتبطة بعسكر، وميليشيات، ورجال أعمال في الظل، وقوى إقليمية تستثمر في الفوضى.

اقتصاد الظل في السودان ليس وليد الحرب الحالية فحسب، بل تراكم عبر سنوات من ضعف الدولة وتآكل مؤسساتها. لكنه انفجر مع اتساع رقعة النزاع وتحول مناطق كاملة إلى ساحات مفتوحة في وجه شبكات التهريب العابرة للحدود. الذهب، السلع الغذائية، الوقود، السلاح، البشر، المواشي… كلها صارت تتحرك خارج سيطرة الدولة، داخل منظومة محكمة يشرف عليها أمراء حرب ووسطاء وشبكات تمويل تمتد من الخرطوم إلى العواصم الإقليمية. ما جعل الوضع أكثر تعقيدًا أن الحرب نفسها باتت تتغذى على هذا الاقتصاد، وفي المقابل يمنحه الصراع المسلح البيئة المثالية للنمو والتمدد.

الجهاز الرسمي للدولة، الذي يفترض أن يكون الأداة التنظيمية لضبط الحركة الاقتصادية، تعرض لتشظٍ كامل. المؤسسات المالية فقدت دورها الرقابي، والجمارك تحولت إلى نقاط تفتيش شكلية، بينما يسيطر على المعابر غير الرسمية مجموعات تفرض “ضرائبها الخاصة” بقوة السلاح. تقارير عديدة تشير إلى أن تدفقات التهريب في بعض المناطق تفوق قيمة التجارة الرسمية، ما يعني أن الدولة أصبحت مجرد متفرج، وأن سلطة القرار انتقلت فعليًا إلى الفاعلين المرتبطين بشبكات الاقتصاد الموازي.

ورغم كل ذلك، يظل الذهب هو العصب الأخطر في اقتصاد الظل السوداني. فبدل أن يكون هذا المورد الإستراتيجي ركيزة لبناء اقتصاد منتج، تحول إلى المصدر الأول لتمويل الصراع. تُهرّب كميات ضخمة عبر طرق غير رسمية نحو دول الجوار، وتُباع في أسواق خارجية دون أن تمر على البنك المركزي أو أجهزة المحاسبة. في ظل غياب الدولة، يُدار الذهب عبر شبكات تجمع بين مجموعات مسلحة وتجار نافذين ومسارات إقليمية تستفيد من انخفاض تكلفة الشراء وغياب الرقابة. وبذلك، صار الذهب ليس فقط ثروة منهوبة، بل أداة لتثبيت موازين قوى جديدة داخل السودان، حيث من يملك السيطرة على مناطق التعدين يملك القدرة على تمويل الحرب.

ومثلما يغذي الذهب الصراع، يفعل الوقود الشيء نفسه. فالطاقة التي يفترض أن تكون محركًا للاقتصاد باتت جزءًا من تجارة مربحة تديرها مجموعات خاصة. التهريب نحو دول الجوار أصبح نشاطًا مستدامًا، إذ يحقق أرباحًا أكبر من البيع المحلي. وبسبب هذا النزيف المستمر، تعيش المدن السودانية انقطاعات متكررة، بينما تستمر الميليشيات في استخدام الوقود المهرب لتسيير آلياتها داخل خطوط القتال. وهكذا، لم يعد الوقود سلعة اقتصادية بل عنصرًا مباشرًا في معادلة الحرب.

اقتصاد الظل لم يترك أثره على البنية الاقتصادية وحدها، بل أصاب المجتمع في عمقه. فقد انهارت الثقة بين المواطن والدولة، وظهرت طبقات جديدة من “أثرياء الحرب” الذين لا يرتبطون بأي إنتاج حقيقي، بل يستفيدون من الفوضى لتضخيم ثرواتهم. هذه الفئة باتت تمتلك نفوذًا سياسيًا، وتضغط على مراكز القرار للإبقاء على الوضع كما هو، لأن الحرب بالنسبة لها ليست تهديدًا بل فرصة ذهبية. ومع مرور الوقت، يتحول هؤلاء إلى بديل واقعي للسلطة المدنية والمؤسسات الشرعية، ما يجعل عودة الدولة إلى مركز المشهد أمرًا بالغ الصعوبة.

أما أخطر ما في اقتصاد الظل فهو قدرته على خلق دولة موازية. فكل شبكة تهريب تطور أدواتها الخاصة للأمن، والجباية، والتوزيع، مما يسمح لها بالتمدّد في المناطق الريفية والحضرية على حد سواء. هذه الكيانات لا تعلن نفسها كسلطة، لكنها تؤدي عمليًا وظائف الدولة: تؤمن الحماية، تفرض الضرائب، وتحدد أسعار السلع، وتتحكم في طرق التجارة. ومع مرور الوقت، تتآكل الدولة الرسمية لأنها لم تعد تملك القوة الكافية لمنافسة هذه الشبكات، ولأن مواردها الحقيقية تُنهب قبل أن تصل إلى الخزينة العامة.

وفي خلفية المشهد، تتحرك قوى إقليمية تستفيد من استمرار الاقتصاد الموازي. بعضها يحصل على الذهب بأسعار منخفضة، وبعضها يغذي الصراع بالسلاح، وبعضها يحتضن أموالًا ضخمة تُهرّب خارج البلاد. ومع غياب رقابة مركزية ووجود حكومتين متنازعتين، يصبح السودان ساحة مفتوحة أمام هذه التدخلات، وتتحول موارده إلى غنيمة يتقاسمها اللاعبون دون أي اعتبار لسيادته أو مصالح شعبه. وهكذا تتعمق الأزمة، وتصبح المعالجة السياسية وحدها غير كافية، لأن جزءًا كبيرًا من المشكلة اقتصادي بطبيعته.

السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل يمكن للدولة السودانية استعادة السيطرة على اقتصادها؟ الإجابة ليست سهلة. فالأمر لا يتعلق بمجرد قرارات حكومية أو حملات أمنية، بل بإعادة بناء مؤسسات الدولة نفسها. لا يمكن تفكيك اقتصاد الظل دون وجود جهاز مدني قوي، قادر على الرقابة، وجهاز قضائي مستقل يفرض القانون، وإدارة مالية موحدة تعيد تنظيم حركة الموارد. وهذا يتطلب أولًا إنهاء الحرب، وثانيًا إعادة هندسة هياكل الدولة بشكل يعيد الثقة للمواطن والمؤسسات.

إن استمرار اقتصاد الظل يعني أن الدولة ستظل تتحرك في اتجاه واحد: مزيد من الضعف، مزيد من الفقر، ومزيد من السيطرة لصالح القوى خارج المؤسسات. وفي بلد ينزف من كل الاتجاهات، يصبح استرداد الاقتصاد الرسمي ليس خيارًا سياسيًا فحسب، بل شرطًا لبقاء الدولة نفسها. فالدولة التي تفقد مواردها تفقد قدرتها على حماية مواطنيها، وحين تتحول السلطة الاقتصادية إلى أيدي ميليشيات ووسطاء، يصبح المستقبل مفتوحًا على احتمالات أكثر خطورة مما يشهده السودان اليوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى