تسريبات

الصراع الخفي في الخرطوم: من يدير السودان فعليا بينما تنهار الدولة؟


منذ اندلاع الحرب الأخيرة في السودان، ظلّت المشاهد المتداولة تركز على الخراب المادي: مبانٍ مهدّمة، أحياء خاوية، طوابير النزوح، وجبهات تُفتح وتُغلق بلا نهاية. لكن ما يجري خلف الكواليس أخطر بكثير مما يظهر على السطح. فهناك داخل الدولة، أو ما تبقى منها، معركة صامتة تدور بين شبكات النفوذ، لا تتعلق بمن يربح الحرب، بل بمن سيحكم الخراب حين تتوقف المدافع. هذا التحقيق يكشف تفاصيل تلك المعركة الخفية، ويضع اليد على السؤال الذي بدأت الدول الفاعلة تطرحه الآن بقلق شديد: من يملك مفاتيح إعادة بناء السودان فعلًا؟ الجيش؟ المليشيات؟ السياسيون؟ أم جهاز إداري يتآكل لكنه لم يمت تمامًا؟

المفارقة أن كل الأطراف المتصارعة تحارب لفرض سيطرتها، لكن لا أحد منهم يمتلك القدرة الفعلية على إدارة الدولة. فمعظم الهياكل المدنية التي كانت تشكل العمود الفقري للسودان—من دواوين الحكومة إلى إدارات الولايات—تعرضت للتلاشي التدريجي. وبحسب مصادر داخل عدد من الوزارات السيادية، فإن نسبة العاملين النظاميين الذين ما زالوا يؤدون وظائفهم لا تتجاوز الثلث في أحسن التقديرات. هذه الفجوة الخطيرة تُبقي البلاد في حالة “شلل إداري” لا يمكن تجاوزه بإعلان سياسي أو اتفاق فوقي.

المعلومات التي توصل إليها التحقيق تؤكد أن حالة الفراغ الإداري هذه خلقت سباقًا محمومًا بين عدة قوى نافذة تسعى لوراثة الجهاز المدني المنهار. بعضها يحاول إعادة تشكيله بما يخدم مصالحه، وبعضها يسعى لتدميره نهائيًا، وبعضها يحاول اختراقه بطرق ناعمة أقل وضوحًا. أحد كبار موظفي وزارة المالية، الذي تحدث بشرط عدم ذكر اسمه، وصف الوضع بدقة: “السودان الآن ليس بلا دولة فقط، بل في طور كتابة دستور جديد للسلطة، لكنه دستور غير معلن، يجري رسمه عبر السيطرة على المواقع الحساسة: الضرائب، الجمارك، الموانئ، أراضي الدولة، شركات التعدين.”

وبحسب شهادته، فإن السيطرة على هذه النقاط ليست مجرد رغبة في النفوذ، بل جزء من “اقتصاد ظل” ضخم يتضخم يومًا بعد يوم، ويغذي الحرب بشكل غير مباشر. فالمليشيات التي تسيطر على مناطق الذهب لا تريد جهازًا مدنيًا قويًا يراقب إنتاجها، والجهات العسكرية التي تسير عمليات الاستيراد عبر طرق فرعية لا ترغب في وجود هيئة جمارك مستقلة، وبعض القوى السياسية التي تراهن على الانهيار ترى في ضعف الإدارة المدنية فرصة لإعادة تشكيل النظام الإداري وفق مصالح ضيقة.

لكن الجديد في هذه المعادلة المعقدة هو أن المجتمع الدولي بدأ يدرك أن المشكلة في السودان ليست مجرد صراع مسلح، بل صراع على من يتحكم في إدارة الدولة. مصادر دبلوماسية مطلعة تحدثت عن تقارير مسربة جرى تداولها في دوائر مغلقة لدى بعض المؤسسات الأوروبية، تشير إلى أن “أي خطة لإعادة الإعمار لن تُنفَّذ إذا ظل السودان بلا جهاز مدني مهني قادر على إدارة الأموال والمساعدات.” أحد الدبلوماسيين وصف الوضع قائلاً: “الجيش لا يستطيع إدارة دولة، والمليشيات لا تريد دولة، والسياسيون منقسمون على دولة لا وجود لها. الوحيد القادر على إعادة تشغيل السودان هو جهاز الخدمة المدنية، لكنه يحتاج إلى حماية ليعود.”

هذا التحليل المدعوم بمعطيات ميدانية يتقاطع مع ما قاله أحد كبار موظفي الخدمة العامة الذين بقوا في الخرطوم رغم كل الصعوبات: “لا نحتاج حكومة جديدة الآن بقدر ما نحتاج إدارة جديدة. إعادة البناء تبدأ من الدفاتر، من السجلات، من الهياكل الصغيرة التي يعرفها المواطن ولا يلتفت إليها السياسي. الدولة تُبنى من الأسفل، لا من فوق.”

في هذا السياق، بدأ يظهر اتجاه جديد داخل بعض الدوائر المدنية والمهنية، يسعى لإعادة إحياء ما يسمونه “المظلة المدنية الموازية”—شبكة إدارة بديلة تعمل ولو بشكل محدود، مهمتها حفظ ما يمكن حفظه من بيانات الدولة، وتشغيل ما يمكن تشغيله من الخدمات، والتحضير لمرحلة ما بعد الحرب. هذه المبادرة—التي لم يتم الإعلان عنها رسميًا بعد—يبدو أنها بدأت تستقطب خبرات سودانية داخل البلاد وخارجها، خصوصًا بعد إدراك الجميع أن الحرب، مهما طال أمدها، ستتوقف في النهاية، وأن الفراغ الإداري سيبقى هو التحدي الأكبر.

لكن هذا التوجه يواجه مقاومة شرسة من قوى لا ترغب في أي إحياء للإدارة المدنية. وهناك تقارير مؤكدة تفيد بمحاولات منظّمة لمحو سجلات الدولة، سواء عبر تعطيل الأنظمة الرقمية، أو نقل الأرشيف إلى مناطق نفوذ معينة، أو خلق نسخ موازية تُستخدم كورقة ضغط مستقبلية. هذا السلوك ليس فوضى، بل جزء من صراع أكبر على “شرعية من يمتلك السجل”، لأن السجلات هي التي تحدد من يملك الأرض، ومن يدفع الضرائب، ومن يستورد، ومن يصدر، ومن يستحق التعويض، ومن له حق التوظيف. إنها معركة السلطة الحقيقية.

رغم هذا الواقع القاتم، فإن هناك نقطة ضوء بدأت تتشكل: لأول مرة منذ سنوات، بدأ الرأي العام السوداني يتحدث بوضوح عن “عودة الدولة” لا “عودة الحكومة”، وعن “إصلاح الإدارة” لا “تقاسم السلطة”. وهذا التحول—إن استمر—قد يشكّل قاعدة ضغط شعبية تُجبر الأطراف السياسية والعسكرية على القبول بدور مركزي للإدارة المدنية في المرحلة المقبلة. بل إن بعض قادة القوى المدنية الذين كانوا يركزون على الملف السياسي أصبحوا اليوم يتحدثون عن “إعادة بناء الخدمة المدنية” كخطوة سابقة على أي تسوية سياسية.

المشهد السوداني الآن يتشكل على مستويين: فوق الطاولة، حرب وصراع ونزوح. وتحت الطاولة، صراع أشرس حول من سيعيد ترتيب الدولة بعد انتهاء الحرب. التحقيق يتوصل إلى خلاصة واحدة لا يختلف عليها أي مصدر مطلع: السودان لن يخرج من الانهيار عبر نصر عسكري ولا عبر صفقة سياسية، بل عبر استعادة جهاز إداري مهني قادر على إدارة الدولة بحدّها الأدنى. والجميع—حتى من يرفض الاعتراف—يدرك تمامًا أنه لا اقتصاد سيُبنى، ولا خدمات ستعود، ولا استقرار سيتحقق، بلا إدارة مدنية مؤسسية قوية.

السؤال لم يعد: من سيحكم السودان؟
السؤال الحقيقي هو: من سيُدير السودان؟

والإجابة—كما باتت واضحة في هذا السبق—لن تكون لا الجيش، ولا المليشيات، ولا النخب المتصارعة، بل الجهاز المدني إذا تمكّن من الوقوف مجددًا… أو لا أحد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى