موجة انشقاقات جديدة تهز مؤسسات البرهان… وتعتيم منظم يحكم المشهد
على الرغم من الخطاب الرسمي الذي تروجه سلطة الفريق أول عبد الفتاح البرهان من بورتسودان حول “تماسك الدولة والجيش”، تكشف معلومات حصرية حصل عليها السودان ليكس من مصادر مدنية وسياسية وأمنية متقاطعة، عن موجة انشقاقات صامتة تضرب قلب المؤسسات العسكرية والحكومية، وسط تعتيم صارم لا يُسمح بخرقه إلا ضمن حدود مرسومة بدقة.
معادلة التعتيم: كشف محدود… وإخفاء واسع
بحسب مصادر قريبة من ضباط كبار في أم درمان والخرطوم، أصدر البرهان توجيهات مباشرة لوزارة الإعلام وكل الجهات الرسمية المعنية بالتواصل، تقضي بإدارة ملف الانشقاقات وفق معادلة دقيقة تقوم على شقّين:
-
الإعلان المدروس عن انشقاقات محدودة تخص موظفين أو ضباطا صغارا بلا تأثير حقيقي، بهدف الإيحاء بأن الدولة تتصرف بشفافية.
-
التكتم الكامل على الانشقاقات المرتبطة بضباط في الاستخبارات العسكرية، ومسؤولين في مؤسسات سيادية، أو أكاديميين ونخب سياسية كانت تعمل تحت المظلّة الرسمية.
وتؤكد المصادر أن ما يجري ليس طارئا، بل عملية منظمة لإخفاء حجم التصدعات داخل جسم السلطة، خصوصا في مؤسسات تعتبر حساسة على مستوى صناعة القرار الأمني والسياسي.
لماذا يصمت المنشقون الكبار؟
رغم تنامي حالات الانفصال غير المعلن، يفضل كثير من الضباط والمسؤولين البارزين تجنب الظهور العلني لأسباب متعددة:
-
ترقب المشهد السياسي وانتظار القوى التي ستحظى بالشرعية الدولية في المرحلة المقبلة.
-
خشية الملاحقات الأمنية والقانونية أو استهداف أسرهم داخل مناطق سيطرة الجيش كورقة ضغط.
-
تفاهمات خلفية مع كيانات مدنية محسوبة على مشروع الحكم المدني و”حكومة تأسيس”، تنصحهم بالتريّث إلى حين اتضاح موازين القوى.
تقول مصادر على صلة ببعض المنشقين إن “الخروج الصامت” بات الطريق الأقل كلفة سياسيا وأمنيا، مقارنة بالظهور العلني الذي قد يقطع أمامهم خيارات العودة أو التفاوض مستقبلا.
الانشقاقات الأخطر: داخل البنية الاستخباراتية
المعلومات التي حصل عليها السودان ليكس تكشف أن أخطر موجات الانشقاق ليست في صفوف الوحدات القتالية، بل داخل الاستخبارات العسكرية نفسها:
-
ضباط ومسؤولون تركوا منظومة البرهان عمليا من دون بيانات أو صور أو إعلانات، على عكس تقاليد الانشقاقات في النزاعات السودانية السابقة.
-
بعضهم استقر في مناطق تخضع لـ”حكومة تأسيس”، وآخرون غادروا السودان نهائيا.
-
في عدد من الحالات، اكتفت السلطة بإبعاد هؤلاء الضباط عن مواقع القرار، مع إعداد ملفات قانونية لاستخدامها في اللحظة المناسبة، سواء للتشهير أو الضغط أو مقايضات لاحقة.
ويبدو أن البرهان يدرك حساسية هذه الظاهرة، فكل تفصيل يخص الاستخبارات يظل محبوسا في غرف مغلقة، خشية انتقال تأثيره إلى باقي مؤسسات الدولة.
من الجيش إلى المدنية: تحول سياسي لا مجرد فرار
تشير شهادات من محيط المنشقين إلى أن الظاهرة تتجاوز “الهروب من الحرب”. ثمة تحول سياسي واضح في قناعات فئات كانت حتى وقت قريب جزءاً من المنظومة الأمنية والعسكرية:
-
ضباط وعاملون في الدولة باتوا يرون أن استمرار الحرب تحت قيادة الجيش الحالي سيؤدي إلى مزيد من الانهيار.
-
كثير منهم وجد في التيارات المدنية الرافضة للحكم العسكري خيارا سياسيا أكثر واقعية لمستقبل ما بعد الحرب.
-
بعض الكيانات المدنية وفرت لهم منصات عمل أو حماية لوجستية داخل مناطق نفوذها، خصوصاً تلك المرتبطة بـ”حكومة تأسيس”.
هذا التحول، وفقاً للمصادر، يعكس إعادة تموضع كاملة، وليست انسحابات تكتيكية، بما يشير إلى تغير عميق في المزاج داخل شريحة من النخب العسكرية.
الأكاديميون والنخب: كسر صامت لـ”شرعية الحرب”
لا تقف الانشقاقات عند العسكريين. معطيات دقيقة تشير إلى حالة تململ غير مسبوق داخل أوساط أكاديمية وإعلامية ونخبوية كانت تشكّل الغطاء السياسي أو الفكري لسلطات ما قبل الحرب:
-
أكاديميون رفضوا الاستمرار في تبرير الحرب، وانسحبوا من الخطاب الرسمي داخل دوائرهم الضيقة.
-
بعضهم غادر إلى عواصم إقليمية، وأعاد طرح نفسه كصوت مؤيد للحكم المدني.
-
آخرون بقوا داخل السودان لكن خارج مناطق سيطرة الجيش، حيث وجدوا فضاءً بحثياً وعلمياً أقل خضوعاً للأجهزة الأمنية في بورتسودان.
هذه الظاهرة تشير إلى تفكك سردية “شرعية الحرب” داخل أهم الحاضنات الفكرية للسلطة، وهو مؤشر سياسي لا يقل أهمية عن الانشقاقات العسكرية.
قضية أحمد النور الحلا: العقاب العلني ورسالة للمنشقين الصامتين
وسط هذا التعتيم، برزت حالة وكيل ثاني النيابة أحمد النور الحلا جاد الله باعتبارها استثناء تمت معالجته بإعلان رسمي صارخ:
-
مجلس السيادة أصدر قرارا بفصله من الخدمة في 25 سبتمبر 2025 بناء على توصية النائب العام.
-
الصياغة المتداولة تربط القرار مباشرة بانضمام الحلا إلى قوات الدعم السريع وتكتل “تأسيس”.
-
الرسالة واضحة: كل من يتجرأ على إعلان تغيير اصطفافه سيواجه عقابا موثقا وعلنيا.
في المقابل، تظل ملفات شخصيات أخرى – ربما أعلى رتبة وأكثر تأثيرا – داخل الأدراج، لا تفتح إلا عندما تقتضي لحظة سياسية معينة استخدامها في الضغط أو الابتزاز أو التفاوض.
سلطة تتآكل من الداخل… وشبكات جديدة تتشكل
تظهر المعلومات الموثوقة التي حصل عليها السودان ليكس أن سلطة البرهان تواجه تآكلا بطيئا ولكن متصاعدا داخل أهم مؤسساتها، فيما تعمل القوى المدنية على استثمار هذا الواقع لبناء شبكات نفوذ جديدة.
ومع أن الانشقاقات لا تزال في أغلبها صامتة، إلا أن حجمها، وتوقيتها، وطبيعة الشخصيات المتورطة فيها، تشير إلى أن مركز القرار في بورتسودان لم يعد متماسكاً كما يروّج إعلامياً.
إنها مرحلة إعادة تشكل لمراكز القوى في السودان، حيث تتحرك النخب العسكرية والأمنية والأكاديمية بحثا عن موقع آمن في الخريطة المقبلة… قبل أن تتضح ملامح النهاية.



