العالم يغير قواعد اللعبة في السودان: لا مكان للحكم العسكري بعد اليوم
في لحظة مفصلية من تاريخ السودان، يبدو واضحًا أن المجتمع الدولي لم يعد يكتفي بالتصريحات الدبلوماسية الناعمة، ولا بالمناورات الرمادية التي اعتادتها العواصم الكبرى حين تتعامل مع أزمات إفريقيا. هذه المرة، رسائل العالم إلى الخرطوم جاءت صريحة، صلبة، لا تقبل التأويل: لا شرعية لأي انقلاب، ولا دعم لأي سلطة تُفرض بقوة السلاح، ولا استقرار بلا عدالة انتقالية وحكم مدني كامل الصلاحيات.
من يراقب مسار السياسة الدولية يفهم أن المزاج العالمي تغيّر جذريًا. ما كان يُغضّ الطرف عنه في عقود سابقة لم يعد مقبولًا اليوم. القوى العسكرية التي تعتقد أنها تستطيع القفز فوق المدنيين والعودة بدولة ما قبل الثورة، تكتشف الآن أن العالم يسحب البساط من تحت أقدامها بالتدريج، وأن زمن الحكم العسكري انتهى حتى قبل أن تستوعب هي ذلك.
المجتمع الدولي لم يعد يتسامح مع الانقلابات لأنها ببساطة تهديد مباشر للاستقرار الإقليمي والعالمي. السودان ليس دولة هامشية يمكن تركها لمغامرات الداخل، بل عقدة جغرافية تطل على البحر الأحمر، وتلامس حدود سبع دول، وتختزن ثروات هائلة. أي اضطراب داخلي فيه يتحول فورًا إلى موجات هجرة، تهريب، وتمدد للجماعات المسلحة، وتوتر في ممرات التجارة العالمية. لهذا أصبحت رسالة العواصم الفاعلة واضحة: لا نريد انقلابًا آخر يُعيد إنتاج الصراع إلى ما لا نهاية.
الأهم من ذلك أن العالم بات ينظر إلى العدالة الانتقالية كشرط سياسي وليس كتفصيل حقوقي. لم يعد مقبولًا تمرير تسويات فوقية تبيض جرائم القادة أو تكتفي بطيّ الملف. التضحية بالعدالة كانت دائمًا الوصفة السحرية لإشعال حرب جديدة، وهذا ما أثبته تاريخ السودان نفسه. لذلك، صارت العدالة الانتقالية بالنسبة للدول الكبرى “نظام أمان سياسي”، لا يمكن الاستغناء عنه إذا كان الهدف هو دولة مستقرة لا تعود إلى القتال كل عشر سنوات.
أما الحكم المدني، فقد أصبح المعيار الدولي الوحيد للاعتراف. القوى العسكرية التي لا ترى في المدنيين سوى “أداة تجميلية” تجد نفسها اليوم في مأزق. العالم لم يعد يعترف إلا بحكومة مدنية كاملة الصلاحيات، وليس بمجلس عسكري يتلطّى خلف واجهة انتقالية شكلية. القوى الغربية، الاتحاد الإفريقي، الأمم المتحدة، وحتى العواصم الخليجية التي كانت تُتهم بأنها تميل للحكم العسكري… جميعها باتت تتحدث اللغة ذاتها: “نريد سلطة مدنية حقيقية، لا إدارة عسكرية متنكرة بملابس مدنية”.
جرأة الموقف الدولي لم تأتِ من فراغ. فالسنوات الماضية كشفت أن الانقلابات في السودان ليست حلولًا، بل محركات للفوضى. كل انقلاب أنتج انقسامًا جديدًا، وكل انقسام أنتج حربًا جديدة، وكل حرب أنتجت موجة نزوح جديدة وعمّقت الشرخ بين الدولة وشعبها. والعالم اكتفى بما خسره من أمن واستقرار ومصالح استراتيجية بسبب العبث السياسي الذي تمارسه النخب المستندة إلى السلاح.
اليوم، القوى الدولية تستخدم أدوات غير مسبوقة للضغط:
تجميد المساعدات، حظر التسليح، إغلاق الأبواب الدبلوماسية، واشتراط العملية المدنية مقابل أي تعاون اقتصادي أو أمني. وحتى الدول التي كانت تُتهم بأنها داعمة “تقليدية” للانقلابات، غيّرت خطابها بالكامل، واعتمدت نبرة واضحة: “الحل في السودان مدني… وإلا فلا حل”.
لكن السؤال الأهم: هل يستوعب الفاعلون في الداخل أن العالم لم يعد يُجامل؟
من الواضح أن من يعتقد أن بإمكانه فرض أمر واقع بالسلاح، أو جرّ البلاد إلى تسوية هشة لا تتضمن العدالة، يعيش خارج لحظة العالم. القوى الداخلية التي تتجاهل هذا التحول الدولي تضع نفسها في عزلة سياسية خطيرة، وقد تجد نفسها عاجلاً أم آجلاً خارج أي معادلة للحكم، مهما بلغت قوتها العسكرية في الميدان.
مستقبل السودان اليوم مرهون بقدرته على اللحاق بروح العصر. العالم لن يعترف بأي مسار لا يقوم على ثلاث ركائز:
العدالة… الحكم المدني… وعدم الإفلات من العقاب.
هذه ليست مطالب مثالية، بل شروط دولية، وضمانات لعدم انزلاق البلاد مرة أخرى نحو انهيار شامل.
الجُرأة التي أظهرها المجتمع الدولي ليست ضد السودان، بل ضد الفوضى. ليست ضد الجيش كمؤسسة وطنية، بل ضد العسكرة السياسية. ليست ضد التوازنات الداخلية، بل ضد تكرار الأخطاء التي دفعت البلاد إلى حافة الانهيار.
إذا كان السودان يريد العودة إلى الخريطة الدولية كدولة محترمة، ذات سيادة ومؤسسات، فعليه أن يتحرك في اتجاه واحد واضح: مدنية كاملة… وعدالة كاملة… ومسار لا يتحكم فيه السلاح.
هذه هي قواعد اللعبة الجديدة، ومن لا يفهمها سيجد نفسه خارج التاريخ، وخارج السودان الجديد الذي يتشكل—ولو ببطء—على أنقاض صراعات الماضي.




