زيف الصورة يتكشف.. أدلة جديدة تنسف رواية المقابر الجماعية في السودان
في زمن الحروب الرقمية، قد تكفي صورة واحدة لتشعل غضب العالم دون استجلاء لحقيقتها أو ما تعبر عنه.
هذا ما حدث تمامًا عندما تداول مستخدمو الإنترنت مؤخرًا صورة فضائية من تطبيق «غوغل إيرث»، زُعم أنها توثّق موقع مقابر جماعية في السودان عقب سقوط مدينة الفاشر بيد قوات الدعم السريع في أواخر أكتوبر.
لكن خلف تلك الصورة، تكمن قصة مختلفة تمامًا — قصة عن قوة الصورة وضعف التحقق، وعن كيف يمكن للتأويل الخاطئ أن يصنع رواية كاملة من فراغ، بحسب شبكة «فرنسا 24».
المنشور الذي أشعل المنصات
في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني، نشر مستخدم مجهول على منصة «إكس» صورة قال إنها «أكثر مشهد صادم في تاريخ غوغل إيرث»، داعيًا إلى الحديث عما وصفه بـ«الإبادة الجماعية في السودان».
لم تمر ساعات حتى تحوّل المنشور إلى ظاهرة رقمية، حصد أكثر من 15 مليون مشاهدة خلال أيام معدودة، وتبنّته حسابات ناشطين وصحفيين وناشرين دون تحقق من مصدره أو تاريخه.
كانت الصورة تُظهر بقعة داكنة وسط أرض جرداء، وبدا للناظرين أن أجسادًا متراصة تغطيها — مشهد بدا متسقًا مع الأخبار القادمة من دارفور، حيث تتحدث تقارير أممية عما قالت إنها «فظائع».

وأمام هذا الانتشار الواسع، بدأ مختصو تحليل الصور في قسم المراقبين بشبكة «فرنسا24» عملية تتبّع دقيقة للصورة.
النتيجة الأولى كانت صادمة: فالصورة لم تُلتقط في أكتوبر/تشرين الأول 2025 كما ادّعى ناشروها، بل تعود إلى 16 مارس/آذار 2024، أي قبل نحو عام ونصف من الأحداث الأخيرة في الفاشر.
أما الموقع، فهو بلدة كوميا الواقعة على بعد حوالي 300 كيلومتر جنوب الفاشر، وليس موقعًا لعمليات عسكرية أو مقابر جماعية كما زُعم.
الأكثر من ذلك أن صورًا أرشيفية تعود إلى عام 2022 تُظهر المشهد نفسه تمامًا – البقعة الداكنة، والظلال الصغيرة المنتشرة حولها، دون أي تغيير يُذكر. وهذا يعني أن الصورة ليست فقط قديمة، بل إنها لا علاقة لها بأي حدث دموي حديث.
تحليل الخبراء: ليست جثثًا.. بل أبقار
ولفهم المشهد بدقة، لجأ فريق التحقق إلى خبراء في تحليل صور الأقمار الصناعية وتحديد المواقع الجغرافية.
وأكد بنجامين ستريك، مدير التحقيقات في «مركز مرونة المعلومات»، أن خصائص الصورة واضحة تمامًا للمحترفين في هذا المجال، قائلا: «ما نراه ليس بشرًا، بل حيوانات. الأشكال المبعثرة تتوزع بشكل منتظم حول بقعة داكنة من الأرض، وهو سلوك مألوف لقطعان الماشية التي تتجمع حول مصادر المياه. حتى التباين اللوني يشير إلى أرض رطبة وليست مقبرة جماعية».
وأضاف ستريك أن «ما حدث هو مثال كلاسيكي على سوء تفسير الصور الفضائية، وهي ظاهرة تتكرر بشكل متزايد في مناطق النزاع، حيث تُستخدم الصور القديمة أو غير المفهومة لخلق سرديات سياسية أو عاطفية جديدة».
بين التضليل والنية الحسنة
ما يجعل هذه الحادثة معقّدة هو أن كثيرين ممن شاركوا الصورة لم يقصدوا التضليل، بل أرادوا لفت الأنظار إلى المأساة الإنسانية في دارفور.
لكن في عالم يسوده سيل هائل من المعلومات، فإن النوايا الحسنة لا تُغني عن التحقق.
فالصورة الواحدة يمكن أن تغيّر مسار نقاش دولي، أو تشكّك في مصداقية قضية عادلة، إذا تبين لاحقًا أنها غير صحيحة.
كما تكشف هذه القصة كيف يمكن لخطأ بسيط في تفسير صورة أن يُحدث أثرًا سياسيًا وإنسانيًا واسعًا.
ففي عصر “غوغل إيرث” و”الذكاء الاصطناعي”، لم تعد الحقيقة مرئية بالضرورة، بل تحتاج إلى أدوات تحقق ومهارات قراءة دقيقة للصور والبيانات.
ويختتم أحد المحققين المشاركين في التحقق من الصورة حديثه قائلًا: «ليست كل صورة صادمة حقيقية، وبعض أكثر الصور تأثيرًا هي في الواقع مجرد انعكاس لمدى هشاشتنا أمام المعلومة غير المؤكدة».
الصورة ليست أول تضليل
ومنذ سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر، عاصمة إقليم شمال دارفور غرب السودان، انخرط نشطاء جماعة الإخوان في ترويج مقاطع مصوّرة عن “انتهاكات” لعناصر قوات الدعم السريع.
وأكدت تحقيقات أجرتها منصات مختصة في التحقق من المعلومات تكشف عن حملة تضليل ممنهجة بيد وسائل إعلام تابعة لتنظيم الإخوان بشأن ما قيل إنه “مجازر” في مدينة الفاشر السودانية.
وحذر مرصد بيم، وهو منصة سودانية مستقلة معنية بكشف التضليل الإعلامي، من انتشار مقاطع مصوّرة على منصات التواصل الاجتماعي تزعم توثيق انتهاكات في الفاشر، لكنها مولَّدة بالذكاء الاصطناعي، محذرة أنها يمكن أن يُلحق الضرر بالضحايا ويمنح الجهات المسؤولة عن الانتهاكات ذريعة للتشكيك في صحة الصور ومقاطع الفيديو.
ومنذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل/نيسان 2023، عمدت جماعة الإخوان — بحسب مراقبين — إلى تغذية الصراع ورفض الحلول الدبلوماسية أو مخرجات طاولات التفاوض.
وحذر مراقبون في السودان من أن النظرة الضيقة والانتهازية لجماعة الإخوان في التعامل مع الوضع في الفاشر تخاطر بتغييب الحقائق وتعطيل القدرة على المحاسبة.
وكان قائد «قوات الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي» قد أعلن أواخر الشهر الماضي تشكيل لجنة تحقيق في الانتهاكات الجسيمة وأعمال العنف المرعبة التي شهدتها مدينة الفاشر، واتُّهمت بها قواته، مبدياً التزامه الكامل بمحاسبة مرتكبيها وإعلان نتائج التحقيق أمام الجميع.
وقال حميدتي، الذي يرأس المجلس الرئاسي لحكومة تحالف السودان التأسيسي «تأسيس»، في خطاب عبر الفيديو، إن قيادته شكّلت لجنة تحقيق فورية لمحاسبة أي جندي أو ضابط ارتكب تجاوزات أو اعتدى على المواطنين في مدينة الفاشر، وأضاف: «اللجان القانونية وصلت المدينة وبدأت عملها بالفعل، ونتائج التحقيق ستُعلن فوراً أمام الجميع».
ولاحقا أعلنت قوات الدعم السريع، توقيف عدد من مقاتليها المشتبه بارتكابهم «تجاوزات» إبان سيطرتها على مدينة الفاشر التي كانت آخر معاقل الجيش في إقليم دارفور.




