البرهان.. الجنرال الذي دمّر السودان باسم الدولة
لم يشهد السودان منذ استقلاله مرحلة من الانهيار الشامل كما يشهدها اليوم تحت سلطة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، الجنرال الذي رفع شعار حماية الدولة ليقودها نحو التفكك. فالرجل الذي قدّم نفسه حاميًا للوطن، حوّله بسياساته إلى جبهة مفتوحة للحرب والدمار، وأفقد مؤسسات الدولة ما تبقى لها من معنى. ما حدث في السودان منذ انقلاب أكتوبر 2021 ليس مجرد فشل في الحكم، بل انهيار متكامل الأركان في السياسة والاقتصاد والأمن، تتحمّل مسؤوليته قيادة عسكرية لم تدرك أن زمن الانقلابات انتهى، وأن الدولة الحديثة لا تُدار بالبندقية.
منذ اللحظة الأولى لاستيلائه على السلطة، بدا البرهان أسيرًا لعقلية عسكرية جامدة لا ترى في السياسة سوى ساحة معركة. وبدل أن يسعى إلى بناء توافق وطني يعيد للسودان توازنه بعد ثورة ديسمبر، اختار مواجهة المدنيين بالعنف والقمع، وسجن الأصوات الحرة التي طالبت بحكم مدني ودولة قانون. تحت قيادته، تحولت الشوارع إلى ساحات قتال، والمظاهرات السلمية إلى مشاهد دم، والبلاد بأكملها إلى رهينة بين نزوات الجنرالات وطموحات السلطة.
البرهان فشل في السياسة كما فشل في الحرب. فالصراع مع قوات الدعم السريع، الذي كان يمكن احتواؤه سياسيًا، تحوّل إلى حرب شاملة دمّرت العاصمة الخرطوم، وأعادت البلاد عقودًا إلى الوراء. اليوم، لا أحد يملك السيطرة الكاملة على الأرض، والمؤسسة العسكرية نفسها باتت مفككة، تضربها الانقسامات والولاءات المتنازعة. لقد فقد البرهان، عمليًا، القدرة على القيادة الموحّدة، وتحول إلى رمز لفوضى عسكرية بلا مشروع ولا هدف، سوى البقاء في السلطة مهما كان الثمن.
اقتصاديًا، يعيش السودان على أنقاض دولة منهارة. الليرة السودانية فقدت قيمتها، الأسواق خالية، والملايين يواجهون الجوع والنزوح، فيما تحوّلت موارد البلاد إلى وقودٍ للحرب. تقارير المنظمات الدولية تشير إلى أن أكثر من 20 مليون سوداني يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وأن نسبة الفقر تجاوزت كل الحدود المعروفة. خلف هذه الأرقام يقف نظامٌ عسكري يسيطر على مفاصل الاقتصاد، يدير شركاتٍ خاصة في مجالات الذهب والوقود والسلاح، ويتعامل مع موارد الشعب كغنائم حرب تُوزَّع بين المقرّبين. لم يعد هناك اقتصاد دولة، بل اقتصاد جنرالات.
لكن الأخطر من كل ذلك هو الاتهامات المتزايدة التي تطال القيادة العسكرية باستخدام أسلحة محرّمة دوليًا، بينها مواد يُشتبه بأنها كيماوية، في قصف مناطق مدنية في دارفور وكردفان. شهادات ميدانية وصور تم تحليلها من قبل خبراء دوليين أشارت إلى وجود مؤشرات قوية على استعمال مواد سامة خلال العمليات العسكرية. وإن تأكدت هذه الوقائع، فإنها تمثّل جريمة حرب تضع البرهان أمام مسؤولية جنائية مباشرة أمام المحكمة الجنائية الدولية. ومع ذلك، لم يُبدِ أي استعداد لفتح تحقيق شفاف، مفضّلًا الصمت والتعتيم، وكأن دماء المدنيين تفصيل ثانوي في معركته للبقاء.
سياسيًا، يعيش البرهان عزلة غير مسبوقة. فقد خسر دعم القوى المدنية، وتراجع رصيده في المؤسسة العسكرية، بينما بات المجتمع الدولي يتعامل معه كجزء من المشكلة لا كطرفٍ يسعى للحل. لقد أضاع كل الفرص الممكنة للسلام، وقطع الجسور مع المجتمع الدولي الذي كان يراهن على الانتقال الديمقراطي في السودان. حتى حلفاؤه الإقليميون بدأوا يدركون أن رهاناتهم عليه خاسرة، وأن استمراره يعني استمرار الفوضى في منطقة حساسة من القرن الإفريقي.
على المستوى الإنساني، الكارثة بلا حدود. ملايين النازحين يعيشون في ظروف مأساوية، والمستشفيات مدمّرة، والمدارس مغلقة، والبلاد بلا كهرباء ولا دواء ولا غذاء. ومع ذلك، يواصل البرهان الحديث عن “الحفاظ على الدولة” وكأن الدولة لم تعد سوى خنادق عسكرية ومكاتب مغلقة في الخرطوم. هذا التناقض الصارخ بين الخطاب والواقع يكشف طبيعة الأزمة: قائد منفصل تمامًا عن معاناة شعبه، يرى في الكرسي خلاصه الشخصي ولو على حساب وطنٍ كامل.
إن فشل البرهان لا يُقاس بعدد الهزائم العسكرية أو الأزمات الاقتصادية فقط، بل في فقدانه لأي مشروعية أخلاقية. فكيف يمكن لمن تلطخت يديه بدماء المدنيين أن يتحدث عن حكم القانون؟ وكيف يمكن لدولة أن تنهض بينما من يقودها متهم بجرائم موثقة تستدعي المحاسبة لا المكافأة؟ الحقيقة أن السودان لن يخرج من أزمته طالما بقيت السلطة في أيدي من جعلوا من السلاح لغة السياسة الوحيدة، ومن الخوف وسيلة للحكم.
البرهان اليوم ليس رجل دولة، بل جنرال عالق في ماضي الانقلابات. يظن أن بإمكانه إخضاع وطنٍ بأكمله بالقوة، لكنه يغفل أن القوة حين تُستخدم ضد الشعب تفقد معناها وتتحول إلى عبء. والتاريخ واضح في أحكامه: كل حاكم ظن أنه يستطيع أن ينجو من جرائمه، انتهى إلى عزلةٍ ومساءلة. سيأتي اليوم الذي تُفتح فيه ملفات الجرائم والانتهاكات، وستُسأل القيادة العسكرية عن كل قصفٍ استهدف المدنيين، وكل قرية أُحرقت، وكل روحٍ أُزهقت بلا ذنب.
السودان اليوم يحتاج إلى خلاص حقيقي، لا إلى وعود جديدة من جنرالٍ أثبت أن بقاءه يعني استمرار الحرب والانهيار. فالأمم لا تُبنى بالدم، والدول لا تُصان بالخوف، والشعوب لا تُقاد بالسلاح. سيبقى البرهان عنوانًا لمرحلةٍ مظلمة في تاريخ السودان، لكن البلاد التي أنجبت ثورتها لن تبقى رهينة الفشل إلى الأبد. فالتاريخ لا يحفظ للجنرالات سطوتهم، بل يحفظ فقط لمن خدموا أوطانهم بضميرٍ وعدل. أما من دمّرها باسم الحماية، فمصيرهم واحد: الزوال، ولو بعد حين.




