لماذا يُوزَّع الجيش الدواء المنتهي في زمن الحرب؟

لا يمكن فهم ظاهرة توزيع الجيش السوداني لأدوية منتهية الصلاحية دون الغوص في البنية العميقة للأزمة السودانية. فما يبدو في الظاهر “إهمالًا لوجستيًّا” هو في جوهره انعكاسٌ لانهيار الدولة كمؤسسة، وتحوّل المؤسسات الأمنية إلى جهات شبه مستقلة تُدار بمصالحها الخاصة، لا بمصلحة المواطنين.
-
مليط… عندما يتحول الخبز والدواء إلى أهداف للقصف
-
أنقرة تُسلّح الصراع السوداني: حين يتحوّل الدواء إلى بارود
منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، لم يعد هناك “دولة صحية” بالمعنى الحقيقي. وزارة الصحة الاتحادية فقدت سيطرتها على أكثر من 80% من المرافق الصحية، خاصة في مناطق النزاع. وفي هذا الفراغ، برز الجيش ليس كجهة داعمة، بل كسلطة بديلة—تتحكم في تدفق المساعدات، وتُحدّد من يستحق العلاج، بل وتحدد نوعه. لكن المشكلة ليست في السيطرة بحد ذاتها، بل في غياب أي إطار قانوني أو أخلاقي يُلزم هذه السلطة العسكرية بالشفافية أو المساءلة.
الأدوية المنتهية الصلاحية التي تُوزّع اليوم ليست نتاج سوء إدارة عابر، بل نتيجة منطق اقتصادي وسياسي داخلي. فالجيش، الذي يعاني من أزمات تمويل متزايدة، يسعى إلى “تبييض” مخزونات طبية لم تعد ذات جدوى عسكرية—إما لأنها انتهت صلاحيتها، أو لأنها غير متوافقة مع احتياجات جنوده. ومن الأسهل توزيعها على المدنيين تحت غطاء “العمل الإنساني” من أن يتحمل تكاليف التخلص الآمن منها أو يعترف بسوء التخطيط في الشراء.
-
حملة رقابية في القضارف تكشف مخالفات دوائية وإغلاق عدد من الصيدليات
-
السودان بين تسويات الجنرالات وهيمنة الإسلاميين: خيوط الفساد والحرب السرية
من الناحية الاجتماعية، فإن هذا السلوك يعكس استغلالًا صارخًا لحالة الضعف المطلق التي يعيشها المدنيون. ففي ظل انهيار سلاسل الإمداد، وانعدام البدائل، يصبح أي دواء—حتى لو كان منتهيًا—خيارًا أفضل من لا شيء. وهكذا، يُحوّل الجيش المعاناة إلى رأسمال رمزي: “نحن نساعد”، بينما الحقيقة أن “المساعدة” تُستخدم لتخفيف الضغط الشعبي، لا لإنقاذ الأرواح.
الأمر لا يخلو أيضًا من بُعد جيوسياسي. فبعض هذه الأدوية قد تكون وصلت كمساعدات خارجية، ثم أُعيد توجيهها بشكل غير قانوني. وغياب الرقابة الدولية المباشرة على توزيع المساعدات في المناطق الخاضعة للجيش يفتح الباب أمام التلاعب.
-
السودان على مفترق طرق: انهيار الدولة وكارثة صحية تحاصر المواطنين
-
بين المرض والفقر: مأساة الصحة في الخرطوم والولايات الأخرى
الحل لا يكمن في إدانة فردية أو تغيير قيادة لوجستية، بل في إعادة بناء مؤسسات الدولة المدنية، وفصل المساعدات الإنسانية عن الأجندات العسكرية، وتمكين الهيئات الصحية المستقلة من مراقبة سلاسل التوريد. وإلا، فكل “حملة إغاثة” قد تكون في الحقيقة حملة تسمم بطيء.
-
السودان بين فشل الدولة ووباء يفتك بالناس.. أين تختبئ المسؤولية؟
-
أنقرة في قلب الأزمة السودانية: استراتيجية توسعية أم كارثة محتملة؟
-
160 مستشفى خارج الخدمة: كيف يواجه السودانيون الموت بلا دواء ولا أمل؟
-
دور سعودي بارز في مساندة السودان وسط التحديات
-
نقابة الصحفيين: توقيف لينا يعقوب ضربة قاسية لحرية الإعلام في السودان
-
النيل الأبيض بين لهيب الحرب ودموع الأبرياء
-
ترسين السودانية.. الكارثة التي محَت ملامح قرية بأكملها
-
بين النزاع والأزمات الإنسانية.. الجوع والمرض الأخطر على السودانيين




