ثروات السودان في يد العسكر.. والشعب يواجه الموت بالأمراض والجوع

في الوقت الذي تنهار فيه المستشفيات في بورتسودان ونيالا والأبيض، وتنتشر الأوبئة في معسكرات النزوح بلا دواء، ينشغل قادة الجيش بعقد الصفقات المشبوهة في الظلّ: صفقات الذهب والموانئ والموارد الوطنية. إنها مفارقة موجعة تعكس بوضوح كيف تحوّل جيشٌ وُجد لحماية البلاد إلى أداة لنهبها وإذلال مواطنيها.
انهيار المنظومة الصحية
الأوضاع الصحية في السودان وصلت إلى مستوى الكارثة الإنسانية. التقارير القادمة من بورتسودان تُظهر مشاهد مأساوية: أقسام الطوارئ خالية من الأدوية، غرف العمليات مغلقة بسبب انقطاع الكهرباء، والكوادر الطبية تعمل دون رواتب منذ شهور.
في نيالا، تفشى وباء الكوليرا في أوساط النازحين، فيما يحصد الملاريا وحمى الضنك أرواح المئات يومياً في الأبيض، دون أن يُعلن عن حالة طوارئ صحية وطنية.
كل هذا يحدث بينما يحتكر الجيش الإمدادات الطبية تحت ذريعة “المجهود الحربي”. تُخزَّن الأدوية والمحاليل في مستودعات مغلقة تابعة للقيادة العامة، وتُباع لاحقاً في السوق السوداء بأسعار خيالية. المواطن الذي يعجز عن شراء مسكن للحرارة أو حقنة مضاد حيوي يواجه الموت بصمت، بينما يواصل الضباط الكبار حياتهم في رفاهيةٍ باذخة.
الذهب.. ثروة منهوبة تحت أعين الجميع
من دارفور إلى نهر النيل، تحوّل الذهب من موردٍ وطني إلى مصدرٍ للفساد والتمويل غير المشروع. تقارير ميدانية وشهادات من داخل مؤسسات التعدين الحكومية تؤكد أن كميات ضخمة من الذهب تُهرَّب يومياً عبر طرق غير رسمية، وبعلم مباشر من ضباط كبار في الجيش.
شبكات التهريب هذه لا تعمل في الخفاء، بل تُدار بشكل منظّم: حراسة عسكرية، تصاريح مرور، وتأمين للنقل الجوي نحو دول مجاورة. الأرباح التي كان من المفترض أن تُنعش خزينة الدولة تُحوّل إلى حسابات خاصة، لتُموّل بها حياة الترف والبقاء في السلطة.
إنها مفارقة مُرّة: بلد غني بالذهب، لكنه يعيش الفقر المدقع. مواطنوه يقتاتون على المساعدات الإنسانية، فيما تُنقل ثرواته في شاحنات مغطاة بعلم الجيش.
الموانئ.. آخر أوراق المقايضة
في الشمال الشرقي، حيث البحر الأحمر يمثل شريان الحياة للسودان، تُدار صفقات خفية تتعلق بمستقبل الموانئ السودانية. تسريبات متطابقة أشارت إلى وجود مفاوضات سرية بين قيادات في الجيش ودولة مجاورة، تتضمن منح امتيازات استثمارية طويلة الأمد في الموانئ مقابل استمرار الدعم العسكري والسياسي للقيادة الحالية.
تُطرح ملفات “ترسيم الحدود البحرية” كغطاء قانوني لهذه الصفقات، لكنها في الواقع ليست سوى تنازلات تمسّ سيادة السودان وموقعه الاستراتيجي في البحر الأحمر. إنها سياسة “البيع البطيء” للوطن، حيث يُستبدل الاستقلال الوطني بالمكاسب الشخصية والولاءات الإقليمية.
وطن بلا حماية
الصحة تنهار، الثروة تُنهب، والموانئ تُباع. وبينما يتفرج المواطن على بلاده تُفرّغ من مضمونها، يواصل القادة العسكريون تبرير فشلهم بشعار “محاربة التمرد” و“حماية الدولة”. لكن الحقيقة المرة أنّ من ينهب قوت الشعب لا يمكن أن يحميه، ومن يبيع ثرواته لا يحق له التحدث باسم الوطن.
لقد تحوّل الجيش السوداني، الذي كان رمزاً للانضباط والانتماء الوطني، إلى كيانٍ اقتصادي-سياسي يبحث عن السلطة والمال أكثر من بحثه عن الأمن والاستقرار. النتيجة هي وطنٌ مهدد بالانهيار الكامل، وشعبٌ تُرك يواجه المرض والجوع والموت بمفرده.
السودان اليوم لا يحتاج إلى شعارات جديدة أو وعود زائفة، بل إلى محاسبة حقيقية. فالمأساة لم تعد في الحرب وحدها، بل في استمرار نهجٍ يعتبر المواطن عبئاً والثروة غنيمة.
وما لم يُفتح ملف الفساد العسكري على مصراعيه، ويُعاد بناء الدولة على أسس مدنية شفافة، فإن السودان سيفقد ما تبقى له من معنى الوطن.
