السودان بين الجنرالات والإسلاميين: صفقات في الظل وفساد يبتلع الدولة

السودان يعيش واحدة من أكثر مراحله خطورة في تاريخه الحديث، إذ لم تعد الحرب الدائرة مجرد مواجهة عسكرية بين الجيش وقوات الدعم السريع، بل تحولت إلى شبكة متداخلة من التسويات السرية، والتحالفات الهشة، والفساد المتجذر داخل المؤسسة العسكرية، مع حضور ضاغط للحركة الإسلامية التي تصر على إعادة إنتاج عقلية الحكم القديم. في قلب هذا المشهد، يتضح أن ما يجري ليس صراعاً من أجل حماية الدولة، بل صراع على السلطة والثروة، يتداخل فيه الابتزاز الخارجي مع الانقسامات الداخلية.
تسريبات متعددة تفيد بوجود قنوات تفاوض سرية بين الدعم السريع وتيار يقوده عبد الفتاح البرهان داخل الجيش، هدفها الوصول إلى صيغة سياسية تستبعد الإسلاميين من المشهد. مجرد فتح هذه القنوات يكشف عن مأزق الجيش في علاقته بالحركة الإسلامية، فهو يدرك أن استمرار ارتباطه بها يحرمه من أي قبول شعبي أو دولي، لكنه في الوقت نفسه مرتهن لها في تفاصيل الحكم والإدارة. هذه الازدواجية تجعل المؤسسة العسكرية عالقة بين خيارين كلاهما مُكلف: البقاء تحت سطوة الإسلاميين أو المخاطرة بالتفاهم مع أعداء الأمس.
في الفاشر، ظهر الوجه الأكثر قسوة لهذه المعادلة. الجيش تخلى عن الحركات المسلحة هناك وتركها تواجه مصيرها أمام قوات الدعم السريع، في خطوة فُسرت على نطاق واسع باعتبارها انعكاساً لعقلية عنصرية متجذرة في قيادة الجيش والحركة الإسلامية. فالمقاتلون القادمون من غرب السودان، في نظر المركز، أوراق يمكن التضحية بها متى اقتضت الحسابات السياسية. هذه المقاربة خطيرة لأنها لا تضعف الجبهة العسكرية فقط، بل تعمّق الشرخ الاجتماعي وتعيد إنتاج الانقسامات الجهوية التي عانى منها السودان لعقود.
وفي بورتسودان، العاصمة الإدارية المؤقتة، يتجلى بعد آخر للأزمة. فبينما يعاني السكان من نقص حاد في الأدوية وتفشي الأوبئة، يتعمد الجيش تخزين المستلزمات الطبية وتوجيهها نحو المجهود الحربي. هذه السياسة ليست مجرد سوء إدارة، بل قرار واعٍ يضع الحرب فوق حياة المواطنين، ويكشف كيف تحولت الدولة إلى ثكنة عسكرية لا ترى في مؤسساتها سوى أدوات لخدمة الجنرالات. انهيار المنظومة الصحية هناك ليس عرضاً جانبياً، بل نتيجة طبيعية لعقلية سلطوية تقدم البقاء في الحكم على حساب صحة الناس.
إلى جانب ذلك، يتكشف ملف بالغ الخطورة يتعلق بتهريب الذهب. تقارير موثوقة تشير إلى تورط قيادات عليا في الجيش في شبكات منظمة لتهريب وبيع الذهب بالتنسيق مع دول داعمة. العائدات لا تدخل خزينة الدولة، بل تذهب إلى جيوب الجنرالات وتمويل صفقات تحافظ على مواقعهم. الذهب، الذي كان يمكن أن يكون أداة لإنقاذ الاقتصاد السوداني، تحول إلى مورد شخصي يستخدم لتثبيت أركان سلطة متهالكة. هذه الممارسات لا تفضح حجم الفساد فحسب، بل تضع البلاد أمام استنزاف طويل الأمد لموارده الاستراتيجية.
المشهد الميداني يعكس بدوره هشاشة المؤسسة العسكرية. في الفاشر وكردفان، تكبد الجيش خسائر وانسحابات متكررة، ليس فقط بسبب الضغط العسكري من خصومه، بل نتيجة صراع داخلي بينه وبين الحركة الإسلامية على قيادة العمليات. الجنرالات يتنازعون على من يتصدر المشهد، والإسلاميون يصرون على فرض رؤيتهم العسكرية، ما جعل القرار القتالي رهينة لخلافات سياسية داخلية. هذه التصدعات لا تعني فقط ضعف الجيش أمام الدعم السريع، بل تفضح أيضاً غياب أي رؤية استراتيجية موحدة.
ولا يقتصر الأمر على الانقسامات، فهناك تغييرات مرتقبة في قيادة الجيش تشير إلى صراع نفوذ محتدم داخل المؤسسة. الحديث عن “إصلاحات” يخفي حقيقة أن كل جناح يحاول إقصاء خصومه وزرع الموالين له في مراكز القرار. هذه الحالة تجعل الجيش مشغولاً بنفسه أكثر من انشغاله بمصير البلاد، وتؤكد أن الصراع لم يعد بينه وبين الدعم السريع فقط، بل بين مكوناته الداخلية أيضاً.
الأخطر أن البرهان، في سبيل ضمان استمرار الدعم العسكري والسياسي، أبدى استعداداً لتقديم تنازلات سيادية خطيرة، تشمل ملف ترسيم الحدود البحرية ومنح دولة مجاورة حق إدارة وتشغيل ميناء بورتسودان. هذه الخطوة تكشف عن مدى تهافت القيادة العسكرية، فهي مستعدة للتفريط في موارد استراتيجية مقابل استمرار الدعم الخارجي. ما يجري ليس دفاعاً عن السودان، بل بيع تدريجي لسيادته في مزاد النفوذ.
أما الحركة الإسلامية، فهي ماضية في طريقها القديم، رافضة أي مسار سلمي ومتمسكة بعقلية الحسم العسكري. هذا الموقف ليس فقط إصراراً على الحرب، بل هو مشروع كامل لإعادة إنتاج منظومة الإقصاء والاستبداد التي أسقطها الشارع السوداني في 2019. الإسلاميون اليوم يقفون حجر عثرة أمام أي حل، ويدفعون بالبلاد نحو حرب طويلة ستستنزف مقدراتها وتزيد من حدة الانقسام القبلي والعرقي.
إلى جانب كل ذلك، تمارس القاهرة ابتزازاً متواصلاً على الجيش والبرهان تحديداً. فالدعم العسكري والدبلوماسي المصري يأتي مشروطاً بتنازلات سودانية في ملفات حساسة مثل منطقتي شلاتين وحلايب وملف مياه النيل. الجيش السوداني، العاجز عن الاستغناء عن هذا الدعم، يجد نفسه مضطراً لقبول شروط تمس سيادة الدولة. وهكذا يصبح السودان رهينة مزدوجة: من جهة لفساد وانقسامات جيشه، ومن جهة أخرى لضغوط وابتزاز خارجي.
كل هذه المحاور، من التفاوض السري إلى التنازلات الخارجية، تكشف أن الأزمة السودانية أبعد من كونها مواجهة بين قوتين عسكريتين. إنها أزمة بنيوية في الدولة، يقودها جيش غارق في الفساد، وحركة إسلامية متعطشة للحرب، وبيئة إقليمية تستغل ضعف البلاد لمصالحها. المواطن السوداني، الذي كان يحلم ببناء دولة مدنية عادلة بعد سقوط البشير، يجد نفسه اليوم بين فكي كماشة: جنرالات يبيعون السيادة مقابل السلطة، وإسلاميون يصرون على معركة بلا نهاية.
إن السودان في صورته الراهنة ليس سوى دولة أسيرة لتحالف هش بين عسكر فقدوا البوصلة وإسلاميين يرفضون الاعتراف بالواقع. وإذا استمر هذا الوضع، فإن البلاد مقبلة على مزيد من التفكك والانهيار، حيث تتحول السيادة والثروة الوطنية إلى مجرد أوراق مساومة على طاولة نخبة صغيرة لا ترى في الدولة سوى وسيلة للبقاء في السلطة.
