تسريبات

حرب المسيّرات تضرب قلب السودان: فراغ أمني واقتصادي يهدد البلاد


شهدت الساحة السودانية تصعيداً غير مسبوق خلال الساعات الماضية بعد سلسلة من الضربات التي استهدفت منشآت حيوية وقيادات عسكرية رفيعة المستوى، الأمر الذي ينذر بتحول خطير في مسار الصراع الدائر في البلاد منذ أشهر. ففي الوقت الذي تعرضت فيه مصفاة الجيلي النفطية شمال مدينة بحري لهجوم جوي نفذته ثماني طائرات مسيّرة، ما أدى إلى توقف العمل فيها وإخلاء جميع العاملين كإجراء احترازي، جاء الإعلان عن مقتل اللواء أبو عبيدة، مدير الأمن العسكري الجديد ونائب مدير الاستخبارات العسكرية، ليمثل ضربة موجعة للجيش السوداني الذي فقد واحداً من أبرز قادته في خضم معركة معقدة ومتعددة الجبهات.

أهمية مصفاة الجيلي لا تقتصر على كونها منشأة صناعية كبرى، بل إنها الشريان الأساسي للطاقة في البلاد، حيث تغطي ما يقارب ستين في المئة من احتياجات السودان من المشتقات النفطية وتشكل المصدر الرئيسي لتزويد محطات الكهرباء ووسائل النقل بالوقود. من هنا فإن استهدافها لا يحمل فقط أبعاداً اقتصادية، وإنما أيضاً أبعاد سياسية واستراتيجية واضحة، تهدف إلى تقويض قدرة الدولة على توفير الحد الأدنى من الاستقرار والخدمات الأساسية لمواطنيها. فكل توقف عن العمل في المصفاة، حتى لو كان مؤقتاً، كفيل بإشعال أزمة وقود خانقة، وانقطاعات كهربائية واسعة، وارتفاع حاد في أسعار السلع، وهو ما يضاعف من الضغوط المعيشية على الشعب السوداني الذي يرزح أصلاً تحت وطأة الحرب والانهيار الاقتصادي.

أما مقتل اللواء أبو عبيدة، فقد شكّل صدمة كبيرة داخل المؤسسة العسكرية، إذ كان يُنظر إليه على نطاق واسع باعتباره أحد أعمدة الجهاز الأمني والاستخباراتي، وبرز في الآونة الأخيرة كأحد أبرز العقول القادرة على إعادة ترتيب المنظومة الأمنية الداخلية وتعزيز قدرة الجيش على مواجهة التهديدات المعقدة التي تمثلها قوات الدعم السريع. وجوده في منصبي مدير الأمن العسكري ونائب مدير الاستخبارات العسكرية جعله الرجل المسؤول عن ملفات شديدة الحساسية، أبرزها مكافحة الاختراقات الأمنية وتأمين الخطوط الخلفية للجيش. وبالتالي فإن اغتياله في هذا التوقيت يفتح الباب أمام فراغ استراتيجي يصعب ملؤه سريعاً، خصوصاً مع إصابة ثمانية ضباط كبار آخرين يشكلون بدورهم جزءاً من النخبة العسكرية.

المتابعون للشأن السوداني لا ينظرون إلى هذين الحدثين كوقائع منفصلة، بل يرون فيهما ملامح خطة متكاملة تهدف إلى ضرب أعمدة الدولة في آن واحد: الاقتصاد عبر استهداف المصفاة، والقدرة العسكرية عبر استهداف القيادات. هذه الضربة المزدوجة ترسل رسالة واضحة بأن الحرب لم تعد مجرد مواجهات ميدانية في شوارع الخرطوم أو أطراف دارفور، بل باتت حرب استنزاف عميقة تهدف إلى شلّ قدرات الجيش في التخطيط والإمداد والإدارة، وخلق حالة من الإرباك الدائم على المستوى القيادي.

خطورة هذا المشهد تكمن في أن تبعاته تتجاوز حدود الجيش أو الحكومة لتطال بنية الدولة السودانية بأكملها. فالاقتصاد المنهك أصلاً لن يحتمل المزيد من الهزات في قطاع الطاقة، والجيش المرهق بفعل طول أمد القتال سيجد نفسه أمام تحديات إضافية مرتبطة بفقدان قادته الميدانيين. هذا الواقع يثير تساؤلات حول مستقبل الصراع، واحتمال أن تدخل البلاد في مرحلة جديدة قد تكون أكثر دموية وتعقيداً، خاصة إذا ما تواصل استهداف البنية التحتية الحيوية وتكررت عمليات اغتيال القادة العسكريين.

في ضوء هذه التطورات، يبدو أن السودان يقف اليوم على حافة منعطف خطير، حيث تختلط فيه الحسابات العسكرية بالرهانات الاقتصادية، وحيث يسعى كل طرف إلى إثبات قدرته على توجيه الضربات المؤلمة لمنافسه. غير أن الخاسر الأكبر في نهاية المطاف يظل هو المواطن السوداني الذي يجد نفسه وسط دوامة من الأزمات المتلاحقة: انعدام الأمن، شلل اقتصادي، انقطاع الخدمات الأساسية، وانسداد الأفق السياسي. هذه الحرب، التي بدأت كصراع على النفوذ والسلطة، تتحول تدريجياً إلى حرب كسر أعناق، لن يخرج منها أحد منتصراً بصورة كاملة، بل قد تترك البلاد في حالة خراب طويل الأمد يصعب ترميمه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى