من يقرر في السودان؟ سؤال السلطة الحقيقية بعد تحركات البرهان الخارجية
يخطئ من يعتقد أن الأزمة السودانية الراهنة هي مجرد صراع عسكري على السلطة، أو تنازع بين مراكز قوة متكافئة. فجوهر الأزمة، كما يراها كثير من المراقبين، أعمق بكثير، ويتصل بطبيعة الدولة نفسها، وبالجهة التي تمسك بمفاتيحها الحقيقية منذ عقود. ومن هذا المنطلق، تكتسب التحركات الخارجية لرأس السلطة معنى مختلفًا، لا بوصفها جولات دبلوماسية، بل باعتبارها محاولات لإعادة التفاوض على موقع السودان داخل معادلة إقليمية لم تعد تقبل الغموض.
زيارة عبد الفتاح البرهان إلى السعودية جاءت في لحظة بلغ فيها الاحتقان ذروته، داخليًا وخارجيًا. فالحرب أرهقت الجميع، والاقتصاد ينهار، والشرعية السياسية تتآكل، فيما تتصاعد قناعة إقليمية بأن المشكلة ليست في غياب الموارد أو الدعم، بل في وجود منظومة داخل الحكم تعيد إنتاج الأزمة كلما لاحت فرصة للخروج منها. هذه المنظومة، التي ارتبط اسمها تاريخيًا بالحركة الإسلامية، لم تعد تُنظر إليها كفاعل سياسي داخلي فحسب، بل كتهديد للاستقرار الإقليمي.
الدوائر الإقليمية التي تتابع الملف السوداني عن كثب، لم تعد تطرح سؤال “من يحكم؟” بقدر ما تطرح سؤال “من يقرر؟”. وهذا الفارق جوهري. فحتى في لحظات إقصاء الإسلاميين رسميًا، ظل تأثيرهم حاضرًا عبر شبكات الولاء، والتمكين الإداري، والتحالفات الأمنية. وهو ما جعل أي سلطة جديدة تبدو، في نظر الخارج، امتدادًا لمنظومة قديمة بواجهة مختلفة.
في هذا السياق، تُقرأ اللقاءات التي عقدها البرهان بوصفها محاولة لإقناع الشركاء الإقليميين بأنه قادر على إدارة عملية فصل حقيقية بين الدولة وهذه الشبكات. غير أن هذا الادعاء يصطدم بتاريخ طويل من التداخل، حيث يصعب التمييز بين ما هو قرار سيادي مستقل، وما هو استجابة لضغوط مراكز نفوذ ظلت تتحرك من خلف الستار. فالأسماء التي يُشار إليها في هذا السياق ليست مجرد شخصيات سياسية، بل تمثل عقدًا تنظيمية راكمت نفوذها عبر سنوات من السيطرة المنهجية على مفاصل الدولة.
الخطاب الإقليمي اليوم أكثر وضوحًا من أي وقت مضى: لا دعم بلا تفكيك، ولا شراكة بلا ضمانات. والسودان، في صورته الحالية، لا يستطيع أن يطلب المساندة بينما يواصل الاحتفاظ بعناصر الأزمة داخل بنيته. هذا الإدراك هو ما يجعل زيارة البرهان مفصلية، لا بسبب ما تحقق خلالها، بل بسبب ما ستُختبر به لاحقًا. فالعبرة ليست في الوعود، بل في القرارات الصعبة التي ستليها.
الشعب السوداني، الذي دفع ثمن هذه المنظومة لعقود، لم يعد معنيًا بلغة التطمينات العامة. ما يريده هو إجابة واضحة عن سؤال بسيط: هل هناك إرادة حقيقية لكسر الحلقة المغلقة التي أعادت إنتاج الفشل مرارًا؟ أم أن البلاد ستظل رهينة توازنات تخدم قلة وتدمر وطنًا كاملًا؟ إن الإجابة عن هذا السؤال لن تأتي من الخارج، بل من الداخل، من شكل السلطة التي ستتشكل، ومن القوى التي ستُقصى فعليًا لا شكليًا.
إن اللحظة الراهنة لا تحتمل أنصاف الحلول. فإما أن يكون هناك مسار واضح لإعادة بناء الدولة على أسس جديدة، أو أن تستمر حالة الاستنزاف حتى الانهيار الكامل. والتاريخ لن يرحم من امتلك الفرصة واختار التردد. أما الرهان الحقيقي، فسيبقى معقودًا على وعي شعب أدرك أخيرًا أن مشكلته لم تكن يومًا في الأشخاص فقط، بل في المنظومة التي تحميهم وتعيد إنتاجهم.




