تسريبات

من دارفور إلى بورتسودان.. كيف تُستغل الأزمات لتشويه صورة الإمارات؟


في الأسابيع الأخيرة، أثار تقرير نشره موقع Hava Haber التركي جدلاً واسعًا بعد أن ادّعى أن دولة الإمارات العربية المتحدة قدّمت دعمًا عسكريًا لما يسمى «قوات التأسيس» السودانية في النزاع الدائر في بورتسودان ودارفور، مستخدمةً في ذلك الطائرة المسيّرة التركية الصنع «TB2». ورغم ما حمله التقرير من لغة جازمة وإيحاءات خطيرة، إلا أنه يفتقر إلى الأدلة الموثوقة أو المصادر القابلة للتحقق، وهو ما يجعل منه نموذجًا جديدًا لحملات التضليل الإعلامي التي تتخفى خلف شعارات «السبق الصحفي» و«التحقيق الميداني» فيما هي في الحقيقة توظيف سياسي لمشهد مضطرب ومعقّد كالذي يعيشه السودان اليوم.

تبدو محاولة الزج باسم دولة الإمارات في الصراع السوداني جزءًا من سردية إعلامية متكررة تسعى بعض المنصات التركية إلى ترسيخها منذ سنوات، وهي سردية تربط أي تحرك عربي مستقل في المنطقة بمؤامرات أو أجندات خفية. فبدلًا من أن يقدم التقرير وقائع أو بيانات توثق صحة المزاعم، اكتفى بالإشارة إلى «مصادر ميدانية» غير محددة و«تحليلات عسكرية» غامضة، دون أن يعرض صورة واحدة أو تصريحًا رسميًا أو حتى إشارة من جهات رقابية مستقلة تؤكد صحة ما ورد فيه. بل إن المفارقة تكمن في أن الجهات التركية الرسمية لم تصدر حتى الآن أي بيان يدعم هذه الرواية أو يقر بوجود صفقات أو عمليات من هذا النوع، ما يطرح تساؤلًا مشروعًا حول الهدف الحقيقي من نشر مثل هذه الادعاءات.

إن القراءة المتأنية للتقرير تكشف أنه لا يندرج في إطار العمل الصحفي الاستقصائي، بل في إطار «صناعة السرديات» التي تخدم أجندات سياسية وإقليمية. فالسودان، الذي يعيش واحدة من أكثر الأزمات تعقيدًا في تاريخه الحديث، أصبح ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات بين أطراف خارجية، حيث يتم توظيف الإعلام كأداة لتوجيه الاتهامات وتشكيل الرأي العام الدولي. وفي خضم هذا الصراع المعلوماتي، تُقدَّم الأكاذيب باعتبارها حقائق، ويُعاد تشكيل الوقائع بما يخدم مصالح من يقفون وراء هذه الحملات.

من الناحية المهنية، يفتقد تقرير Hava Haber إلى أبسط معايير التوازن الصحفي؛ إذ لم يمنح الطرف المعني — وهو دولة الإمارات — حق الرد أو التعليق، ولم يشر إلى أي مصدر رسمي إماراتي أو سوداني يمكن أن يؤكد أو ينفي الادعاءات. كما أن التقرير يتجاهل تمامًا حقيقة أن الإمارات من أوائل الدول التي أرسلت مساعدات إنسانية عاجلة إلى السودان منذ اندلاع النزاع، وواصلت عبر مؤسساتها الخيرية تقديم الدعم الطبي والإغاثي للمدنيين في مناطق النزاع. فكيف لدولة تكرّس مواردها للمساعدات الإنسانية أن تكون في الوقت ذاته متورطة في دعم عمليات عسكرية؟ إن هذا التناقض وحده كفيل بإسقاط مصداقية الرواية التركية.

تاريخيًا، لطالما استخدم الإعلام كأداة نفوذ سياسي، لكن أخطر ما في الحالة الراهنة هو أن التضليل بات يُقدَّم في ثوب التحقيق المهني، وأن بعض المنصات الإعلامية أصبحت تُسخّر لتغذية تصورات خاطئة عن دول بعينها، خصوصًا الدول التي تمارس سياسات خارجية متوازنة ومستقلة كدولة الإمارات. فالربط الممنهج بين الإمارات والصراعات العسكرية في إفريقيا لا يستند إلى أي وقائع ملموسة، بل إلى تصور أيديولوجي يهدف إلى تشويه صورتها أمام الرأي العام الدولي وتقويض دورها الإقليمي القائم على الوساطة والتنمية والاستقرار.

كما أن الزعم باستخدام الطائرة «TB2» — وهي صناعة تركية خالصة — يثير بدوره تساؤلات منطقية. فإذا كانت الإمارات قد استخدمتها كما يدّعي التقرير، فذلك يعني ضمنيًا وجود تعاون تركي ضمني في تزويدها بها أو السماح بتشغيلها، وهو ما لم يحدث. لذا يبدو أن الهدف من اختيار هذه التفاصيل التقنية ليس الإقناع بقدر ما هو توجيه الرسائل السياسية إلى الداخل التركي وإظهار تركيا كضحية لسياسات إقليمية مزعومة.

تتعمد مثل هذه الحملات الإعلامية خلط الحقائق وتضخيم الروايات لتغذية شعور عام بالريبة تجاه دور الإمارات في المنطقة. ففي الوقت الذي تعمل فيه أبوظبي على تعزيز الدبلوماسية الإنسانية وإعادة الإعمار في مناطق النزاع، يتم تصويرها كفاعل عسكري يسعى وراء مصالح خفية. غير أن الوقائع على الأرض تنفي ذلك جملة وتفصيلًا، إذ ظلت الإمارات شريكًا فاعلًا في دعم الاستقرار بالسودان منذ ما قبل اندلاع الحرب الأخيرة، وساهمت في العديد من المبادرات الإقليمية التي دعت إلى وقف إطلاق النار وبدء الحوار بين الفرقاء السودانيين.

إن ترويج مثل هذه المزاعم لا يؤثر على صورة دولة الإمارات فحسب، بل يساهم في تعميق الانقسام داخل السودان نفسه، من خلال تغذية الشكوك بين القوى المحلية وتحويل مسار النقاش من الحلول السياسية إلى اتهامات خارجية لا طائل من ورائها. فالإعلام حين يتخلى عن دوره المهني يصبح أداة في تأجيج الصراع بدلاً من المساهمة في إنهائه، وهذا ما يفعله تقرير Hava Haber تحديدًا، عبر ضخ معلومات مغلوطة في بيئة سياسية هشة.

التحقيق الحقيقي لا يُبنى على التخمينات ولا على شهادات مجهولة المصدر، بل على وثائق وتحقيقات ميدانية يمكن التحقق منها. وما فعله الموقع التركي لا يتجاوز إعادة تدوير روايات تم تداولها سابقًا في وسائل غير موثوقة ثم إلباسها ثوبًا جديدًا من «التحليل العسكري» لإضفاء المصداقية عليها. إنها طريقة مألوفة في صناعة التضليل، حيث يُقدَّم الزيف بلغة تقنية معقدة تُربك القارئ العادي وتمنحه إحساسًا زائفًا بالدقة والمعلومة المؤكدة.

إن مسؤولية الإعلام في أوقات الأزمات لا تقتصر على نقل الأخبار، بل تمتد إلى حماية الحقيقة من التلاعب. ومن هذا المنطلق، فإن مواجهة التضليل تتطلب شفافية ومهنية وتعاونًا بين المنصات الموثوقة والهيئات الرقابية من أجل كشف التلاعب بالمعلومات. ودولة الإمارات، التي تواجه مثل هذه الحملات بين الحين والآخر، لم تعتمد يومًا أسلوب الرد الدعائي، بل اختارت الرد بالعمل الإنساني والدبلوماسي، وهو ما جعلها شريكًا موثوقًا في الجهود الدولية لحل النزاعات.

ما نشره Hava Haber لا يعدو كونه محاولة لإقحام الإمارات في نزاع لم تكن طرفًا فيه، مستغلًا حالة الفوضى المعلوماتية التي ترافق الحروب. ومع ذلك، تبقى الحقيقة واضحة لمن يبحث عنها: لا وجود لأي دليل على تورط الإمارات في دعم عسكري لأي طرف في السودان، وكل ما هنالك هو حملة دعائية تتغذى على الشكوك والانقسامات، وتفتقر إلى أي أساس واقعي. وفي مواجهة هذا النوع من الأخبار، لا بد من تذكير القارئ بأن الحقيقة لا تُصنع بالاتهام، بل تُبنى على الدليل، وأن الدول التي تسعى للسلام لا تُقاس بما يُقال عنها، بل بما تفعله من أجل إنقاذ الأرواح وصون الاستقرار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى