تحقيقات

من الحرب إلى المواطنة.. هل يجد السودان طريقه مع رؤية عرمان؟


في كلمة ألقاها رئيس الحركة الشعبية التيار الثوري الديمقراطي، ياسر عرمان، خلال مشاركته في مؤتمر السلام العالمي الخامس الذي انعقد بمدينة أوسيكوبانكي الفنلندية بين الثالث عشر والسادس عشر من أغسطس 2025، تناول فيها تطورات الأزمة السودانية من منظور سياسي وإنساني، مستعرضًا تجربته الشخصية ومسار الحركة الثورية، ومؤكدًا على ضرورة تبني نهج سلمي شامل لمعالجة جذور النزاع في السودان وجنوب السودان.

استهل عرمان كلمته بالتعبير عن امتنانه لمنظمي المؤتمر، مشيدًا بدور كل من يوانا فاساما وآلان ريد، الذي وصفه بالصديق القديم للسودان وجنوبه، في دعوته للمشاركة في جلسة خصصت لمناقشة مسار التحول من اليأس إلى السلام في البلدين. كما أعرب عن تقديره لوزير الخارجية الفنلندي بيكا هافيستو، الذي سبق له أن شغل منصب الممثل الخاص للاتحاد الأوروبي للسودان، وللناشطة إستر إسبريغ التي وصفها بشريكة العمل الطويل في قضايا السلام، مؤكدًا أن تركيزه في هذه المداخلة سيكون منصبًا على الوضع الراهن في السودان.

عرمان أشار إلى أنه خاض تجربتين في قيادة الحروب السابقة، وكان في السابق من المؤمنين بالكفاح المسلح كوسيلة لتحقيق الأهداف السياسية، لكنه تخلى عن هذا الخيار لصالح النضال السلمي الجماهيري غير العنيف، الذي بات يراه الطريق الأمثل لتحقيق التغيير السياسي. وأكد التزامه بهذا النهج إلى جانب زملائه في التيار الثوري الديمقراطي للحركة الشعبية، وتحت مظلة تحالف القوى الثورية الديمقراطية المعروف باسم “صمود”.

وفي معرض حديثه عن الحرب التي اندلعت في السودان في الخامس عشر من أبريل 2023، أوضح أنها لم تكن حدثًا مفاجئًا، بل جاءت امتدادًا لسلسلة من النزاعات التي بدأت منذ عام 1955، وشملت مناطق جنوب السودان والنيل الأزرق وجبال النوبة وشرق السودان ودارفور. غير أن ما يميز هذه الحرب عن سابقاتها هو انطلاقها من قلب البلاد، لا من أطرافها، ما يعكس عمق الأزمة الوطنية المركبة التي تعاني منها البلاد منذ عقود.

عرمان شدد على أن هذه الحرب تطرح تساؤلات متجددة حول جذور الأزمة السودانية، التي تعود إلى غياب مشروع وطني ديمقراطي قادر على بناء توافقات سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية تعكس التنوع التاريخي والمعاصر للسودان، وتؤسس لدولة مدنية حديثة تقوم على مبدأ المواطنة المتساوية، بما يفتح الطريق أمام سلام مستدام.

وفي تقييمه للأوضاع الإنسانية، وصف عرمان ما يعيشه السودان بأنه أكبر كارثة إنسانية يشهدها العالم حاليًا، مشيرًا إلى دخول الحرب عامها الثالث وما خلفته من دمار واسع في البنية التحتية، لا سيما في قطاعات الصحة والتعليم، إلى جانب النقص الحاد في الغذاء والدواء، وتفكك النسيج الاجتماعي، وتصاعد خطاب الكراهية بين مكونات المجتمع المختلفة.

ودعا إلى ضرورة التوصل إلى وقف إنساني شامل لإطلاق النار، يتيح فتح الممرات الإنسانية ويضمن حماية المدنيين، مع نشر بعثة سلام لمراقبة الالتزام بهذا الوقف. واعتبر أن هذا الإجراء يجب أن يكون مدخلًا نحو عملية سلام متكاملة تشمل معالجة الأزمة الإنسانية والمسار السياسي في آن واحد.

وفي استعراضه لتاريخ اتفاقيات السلام السابقة، أشار عرمان إلى أن الشعب السوداني خاض على مدى أربعة عقود تجارب متعددة مع حلول جزئية واتفاقيات مؤقتة لم تنجح في معالجة جذور الأزمة أو تحقيق سلام دائم وعدالة ومواطنة متساوية. وخص بالذكر اتفاقية نيفاشا للسلام الموقعة عام 2005، التي وصفها بأنها لم تكن شاملة فعليًا، ولم تحقق الاستقرار المنشود في شمال أو جنوب السودان.

وأكد أن السودان بحاجة اليوم إلى صيغة جديدة تضع إطارًا استراتيجيًا يعالج المظالم التاريخية وينهي كافة أشكال التهميش، بما في ذلك التهميش القائم على النوع الاجتماعي، مشددًا على أن معالجة الأزمة يجب أن تبدأ من المركز، نظرًا لأن الحرب الحالية انطلقت منه، وذلك عبر إصلاح قضايا الحكم والديمقراطية والعدالة والمواطنة.

وفي تحليله لخطاب طرفي النزاع، أشار إلى أن القوات المسلحة السودانية تصف الحرب بأنها “حرب الكرامة”، بينما تعتبرها قوات الدعم السريع “حرب هدم دولة 1956″، لكنه يرى أن الطرفين يخوضان صراعًا من أجل السلطة والموارد، وأن مشروعيهما يقودان إلى الاستبداد ولا يعبران عن تطلعات الشعب السوداني. واعتبر أن ما يمكن أن يوحد السودانيين هو خطاب ثورة ديسمبر والمطالب التاريخية للثورات السودانية منذ عام 1924، سواء في المدن أو الأرياف.

وفي سياق حديثه عن دور الحركة الإسلامية، حمّل عرمان حزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية مسؤولية اندلاع الحرب، مشيرًا إلى أن الثورة الشعبية أطاحت بهم وفتحت الباب أمام مرحلة انتقالية ديمقراطية حظيت بدعم داخلي وخارجي. واستعرض التحولات التي شهدها السودان خلال إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، حيث تم رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، واستعادت البلاد علاقاتها الدولية وبدأت التعاون مع المؤسسات المالية العالمية.

لكنه أشار إلى أن التيار الإسلامي داخل وخارج الأجهزة الأمنية دفع باتجاه الانقلاب واندلاع حرب أبريل لاستعادة السيطرة على الدولة، التي احتكروها لأكثر من ثلاثين عامًا. ودعا إلى تصنيف المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية السودانية كمنظمة إرهابية، مستعرضًا سلسلة من الجرائم التي ارتبطت بهم، من استضافة أسامة بن لادن، والمشاركة في تفجيرات سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا، ومحاولة اغتيال الرئيس المصري الراحل حسني مبارك، والهجوم على المدمرة الأميركية “كول”، وصولًا إلى المشاركة في أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

ووصف الحركة الإسلامية السودانية بأنها جماعة فاشية بنت نظامًا قمعيًا وتمييزيًا، قاد البلاد إلى العزلة والإرهاب، مؤكدًا أن خطرها لم ينتهِ بعد رغم سقوطها، وأنها لا تزال تشكل عائقًا أمام تحقيق السلام والديمقراطية.

وفي ما يتعلق بإصلاح القطاع الأمني، شدد عرمان على أن أحد أبرز تحديات السلام يتمثل في تعدد الميليشيات والجيوش الموازية التي تنتهك حقوق المواطنين وتوسع النفوذ العسكري على حساب المدنيين، وتنهب موارد البلاد، مؤكدًا أنه لا يمكن تحقيق سلام دائم أو استقرار أو ديمقراطية من دون بناء جيش وطني مهني موحد.

وتطرق إلى الموقع الجيوسياسي للسودان، مشيرًا إلى أهميته الاستراتيجية على البحر الأحمر، وارتباطه بالقرن الأفريقي ومنطقة الساحل، محذرًا من أن استمرار الحرب سيؤثر سلبًا على استقرار هذه المناطق، بينما سيكون لتحقيق السلام في السودان انعكاسات إيجابية على أجندة السلام الإقليمية والدولية.

وفي ما يتعلق بأوضاع النازحين واللاجئين، أكد أن عدم توفير حق الإقامة والعيش الكريم لهم داخل السودان سيدفعهم للبحث عن ملاذات خارجية، ما سيزيد من أعباء الدول المجاورة، ويؤدي إلى موجات هجرة نحو أوروبا وأميركا، مشددًا على أن معالجة هذه القضية تمر عبر تحقيق السلام داخل البلاد.

وأشار إلى أن طرفي النزاع يتلقيان دعمًا إقليميًا ودوليًا، بما في ذلك الأسلحة الحديثة والطائرات المسيّرة، ما يستدعي تنسيقًا واسعًا بين القوى الإقليمية والدولية لإنهاء الحرب. وأعرب عن أمله في أن يشكل الاجتماع المقترح في واشنطن بمشاركة بعض الدول الإقليمية نقطة انطلاق نحو خارطة طريق قوية، داعيًا إلى استغلال فترة التأجيل لمعالجة الثغرات وتعزيز العملية السلمية، لا سيما في ما يتعلق بتوحيد المواقف الدولية والإقليمية مع الجهد الأميركي.

وفي ختام كلمته، شدد عرمان على أهمية إشراك السودانيين أنفسهم في تقرير مصير بلادهم، مؤكدًا أن السلام المستدام والديمقراطية الحقيقية لا يمكن أن يتحققا من دون مشاركة أصحاب المصلحة من المدنيين الداعمين للديمقراطية منذ البداية، وأن هذه المشاركة ستمنح العملية شرعية شعبية حقيقية. وأكد أن السودان بلد غني بالإمكانات، وشعبه قدم تضحيات جسيمة من أجل تحقيق السلام والعدالة والوحدة وصيغة جديدة للحكم، ويستحق كل الدعم من القوى المحبة للسلام والديمقراطية حول العالم لبناء مستقبل جديد للبلاد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى