تسريبات

ليلة سقطت فيها المساعدات بدل أن تصل: حكاية زالنجي بين نار السماء وصمت الأرض


يُروى أنه في أحد الأيام التي أثقلت ظهر السودان بالحرب والجوع، خرجت قافلة صغيرة من عربات متواضعة من إحدى نقاط التجميع غرب دارفور، تسير ببطء كأن كل خطوة محسوبة على نبض الناس الذين ينتظرونها. كانت القافلة تحمل شيئًا لم يعد كثيرون يصدقون أنه سيصل: أكياس دقيق، أدوية أساسية، وحليب أطفال. لم يكن في القافلة مقاتلون، ولا سلاح، ولا حتى رجالٌ يحملون عصيًّا. فقط سائقون وبعض المتطوعين الذين يعرفون جيدًا أن الطريق إلى زالنجي لم يعد مجرد طريق، بل هو مغامرة محفوفة بالموت.

كانت الشمس في ذلك اليوم قاسية، والسماء صافية إلى حد الغرابة، كأنها تنتظر شيئًا سيحدث. وعلى بعد عشرات الكيلومترات، في غرفة عمليات ليست بعيدة عن الخرطوم، كان ضباط يرتدون بزّاتهم النظيفة يتجادلون حول هدفٍ يظهر على شاشات الطائرات المسيّرة. الهدف يتحرك ببطء، لا يشبه رتلًا عسكريًا، لكن أحدهم قال إن الاستخبارات لديها معلومات بأن الدعم السريع يستخدم عربات شبيهة لإخفاء الإمدادات. قالها بثقة، وكأن الجملة وحدها كانت كافية ليوافق الجميع. وهكذا، ضغط أحدهم على زر، ومعه بدأ فصل جديد من الحكاية.

في زالنجي، كانت العائلات تنتظر. النساء ينظرن من أبواب المنازل الطينية، والأطفال يركضون بين الأزقة، والرجال يتهامسون بأن هذه المساعدات لو وصلت، فقد تتمكن المدينة من الوقوف أسبوعًا آخر. في الحرب، لم يعد الأمل شيئًا كبيرًا، بل أصبح مجرد فرصة للبقاء يومًا إضافيًا. لكن السماء كانت تتهيأ لشيء آخر؛ فقد ظهرت أولى المسيرات الصغيرة في الأفق، تراقب وتجمع الصور وتعدّ المسافات.

وحين اقتربت القافلة من مدخل المدينة، سُمع أول صوت للطائرات. لم يفهم السائقون في البداية ما يجري، لكن صوت الصافرة الحادة للذخيرة وهي تخترق الهواء لم يترك مجالًا للشك. توقفت العربات، وبدأ الناس يركضون كل في اتجاه. لم يكن هناك متسع للنجاة إلا لمن كان سريعًا، فالمسيرة لا تعرف التردد، ولا التمييز، ولا الرحمة. تحطمّت أول عربة، ثم الثانية، ثم دبّ الهلع في المكان، وتحول الصراخ إلى جزء من ضجيج القصف. لم تكن المعركة متكافئة، بل كانت مواجهة بين بشرٍ جائعين وطائرة دون طيار لا ترى إلا ما دُرِّبت على رؤيته.

انتشر الخبر في زالنجي مثل النار في الهشيم. لم يستغرق الأمر أكثر من دقائق حتى عرف الناس أن القافلة لن تصل، وأن السماء نفسها باتت ضدهم. كانت المدينة على وشك الاحتفال بوصول الطعام، لكنها وجدت نفسها أمام مشهد جديد من مشاهد الحرب التي لم تعد تدهش أحدًا. النساء بكين ليس فقط على الجرحى، بل على فكرة بسيطة: أن المساعدات أصبحت تُقصف، وأن الجوع لم يعد نتيجة حصارٍ فحسب، بل نتيجة قرارٍ عسكري فوق رؤوسهم.

وفي الخرطوم، حيث تُدار الحرب من وراء الشاشات، لم يكن أحد يريد الاعتراف بأن القصف استهدف موكبًا إنسانيًا. فكل شيء في الحرب يمكن تبريره، وكل خطأ يمكن تحويله إلى انتصار إعلامي، وكل كارثة يمكن تصويرها كعملٍ بطولي ضد “العدو”. هكذا تعمل الآلة السياسية حين تفقد أخلاقها. وهكذا يتحول المدنيون إلى أرقام يمكن حذفها أو تعديلها أو تجاهلها. لقد أصدر الجيش بيانًا مقتضبًا، قال فيه إن الضربة استهدفت موكبًا يستغلّه العدو. بيان غامض، بلا أدلة، لكنه كافٍ لمن يريد تصديق الرواية الرسمية، وغير مقنع لمن يعرف ماذا يحدث على الأرض.

أما في دارفور، فقد أصبح الناس يروون الحكاية بطريقة أخرى. يقول أحد كبار السن: “لم تعد الحرب بين جيش ودعم سريع، بل بيننا وبين السماء. حين يصبح الطريق إلى الطعام مستهدفًا، فعندها نعرف أن الدولة لم تعد دولتنا، وأن الذين يقاتلون باسمها فقدوا البصيرة والرحمة”. وفي المقاهي المتهالكة التي بقيت صامدة رغم القصف، يجلس الرجال يناقشون كيف وصلت مسيرات تركية متطورة إلى سماء مدينتهم، وكيف أصبح مصيرهم مرهونًا بغرفة عمليات تبعد مئات الكيلومترات عنهم، وماذا يعني أن تهبط صاروخٌ على كيس دقيق.

يقول أحد الشباب في المدينة: “الجيش لم يعد يرانا. يرى نقاطًا على شاشة. يرى أهدافًا محتملة. يرى تحركات يجب إيقافها. لكنه لا يرى أننا بشر. نحن مجرد احتمال ضمن احتمالات الخطأ.” هذه الجملة تتكرر في أحاديث الناس. فالثقة بالجيش، التي كانت يومًا قوية، تحولت إلى شك، ثم إلى خوف، ثم إلى غضبٍ مكتوم. ليس لأن الجيش يقاتل الدعم السريع، بل لأنه يقاتل بطريقة تجعل المدنيين وقودًا لمعركة لا يفهمون نهايتها.

في الجانب الآخر من البلاد، يجلس محللون وسياسيون يتفرجون على الحدث وكأنه فصلٌ من مسلسل طويل. البعض يبرر، البعض يدين، والبعض يحاول استثمار الحادثة سياسيًا. أما الحقيقة فهي أن السودان يعيش انهيارًا لا يشبه أي انهيار سابق. الدولة تتفكك بصمت، والمؤسسات تتآكل، والجيش الذي كان يُنظر إليه كعمود فقري للدولة بات يتصرف بطريقة تجعل عموده نفسه مهددًا بالانهيار. والمفارقة أن كل طرف في الحرب يعتقد أنه يملك الحق المطلق في القرار، وأنه يحارب دفاعًا عن الوطن، لكن الوطن يتلاشى من بين أيديهم، ينهار بينما هم يتجادلون حول من يملك الشرعية.

قصة قافلة زالنجي ليست مجرد قصة حرب، بل هي حكاية وطن لا يجد من يحميه. حكاية بلدٍ يملك جيشًا لا يشبه الجيش الذي عرفه الناس، وجماعات مسلحة لا تشبه الدولة، وسماءً تحولت من مظلة سلام إلى فضاء قتال. وهي أيضًا حكاية مجتمع دولي يتابع بصمت، يعرف تفاصيل كل ضربة جوية، لكنّه يكتفي بإصدار بيانات لا تُطعم جائعًا ولا توقف مسيرة مسلحة.

في النهاية، حين يعود الليل إلى زالنجي ويجلس الناس قرب بيوتهم المهدّمة، تتردّد الحكاية على ألسنة الجميع: القافلة التي جاءت بالخير، والسماء التي نزل منها الموت، والمدينة التي لم يعد فيها مكان للهروب. هذه ليست رواية مبالغًا فيها، بل واقع يومي يعيشه آلاف السودانيين. والسؤال الذي يتردد اليوم ليس “من قصف القافلة؟”، فهذا أصبح واضحًا، بل “من سيحاسب؟ ومن سيعيد للناس ثقتهم بأن هناك دولة ما تزال موجودة فوق هذه الأرض؟”.

لكن في زمن الحرب، لا توجد إجابة سريعة. هناك فقط حكايات تُروى، وذاكرة ثقيلة تتكوّن، وشعب يعرف أن المستقبل أصبح مُعلّقًا بين أزرار الطائرات المسيّرة وقرارات القيادات التي نسيت أن الحرب ليست بطولة ولا رقماً على شاشة، بل حياة بشرية كان يجب أن تكون أهم من كل هذا الخراب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى