زوايا

لغة الإنذار: التحليل النفسي لخطاب التهديد… ولماذا لا يقود إلى الخلاص


في الحروب، لا يتقدّم السلاح وحده إلى الواجهة، بل تتقدّم معه اللغة. لغة تُعيد ترتيب العالم في جُمل قصيرة: خطر يقترب، زمن ينفد، لحظة لا تُفوّت. وفي هذا المناخ، لا يُستدعى التاريخ بوصفه معرفة، بل بوصفه ذخيرة. ولا يُستحضر الحلفاء لأنهم يفهمون تعقيد الواقع، بل لأن أسماءهم تمنح الخطاب قوة رمزية تختصر الأسئلة وتُسرّع القبول.

ما نواجهه اليوم في السودان ليس فقط صراعًا عسكريًا، بل صراعٌ على كيفية تفسير الزمن:

هل نحن في مسار طويل يحتاج صبرًا وبناءً؟

أم في لحظة حاسمة لا تحتمل التردّد ولا تسمح بالأسئلة؟

هذه المقالات تحاول أن تفكك هذا الصراع بهدوء.

لا لتفكيك أشخاص، بل لتفكيك الخطاب:

كيف يُستدعى التاريخ؟

كيف يُستدعى الحلفاء؟

كيف يُدار الخوف؟

وكيف تتحوّل “اللحظة الحاسمة” من توصيف إلى أداة سياسية لإعادة إنتاج السلطة نفسها بأسماء جديدة؟

خطاب “اللحظة الحاسمة” لا يعمل فقط على مستوى السياسة، بل على مستوى أعمق: النفس الجمعية.

هو خطاب يعرف كيف يخاطب الخوف، لا العقل.

في علم النفس، حين يواجه الإنسان تعقيدًا طويل الأمد، يميل إلى اختزال العالم في ثنائيات: الآن أو الفناء.

الحسم أو الضياع. نحن أو هم. هذا الاختزال يمنح راحة مؤقتة. يعفي من التفكير الطويل، ويمنح شعورًا زائفًا بالسيطرة.

لكن السياسة التي تُدار بهذه الطريقة لا تُنقذ المجتمعات، بل تُنهكها.

خطاب التحذير يعمل عبر أدوات واضحة:

استعجال الزمن: “الوقت ينفد” تضييق الخيارات: “لا بديل”

شيطنة السؤال: “النقاش خيانة”.

إنتاج بطولة زائفة: من يوافق شجاع، ومن يعترض جبان.

بهذا، لا تُدار السياسة، بل تُدار الطاعة.

الأخطر أن هذا الخطاب يعيد تعريف الوطنية نفسها: الوطن يصبح جبهة، والسياسة تصبح اختبار ولاء، والتاريخ يتحوّل إلى محكمة لا تقبل الاستئناف.

لكن التاريخ يقول لنا شيئًا آخر، أقل إثارة وأكثر صدقًا: كل مرة قُدّمت فيها الحرب بوصفها الحل الوحيد، أُغلقت السياسة، وتجمّد المجتمع، وعاد العنف بأشكال أشدّ.

الخروج الحقيقي لا يكون بكسر الخوف عبر تهديد أكبر، بل بتفكيك الخوف نفسه. بفتح الزمن بدل اختصاره،

وبإعادة السياسة إلى مسار يمكن للناس أن يعيشوا داخله، لا أن يُدفعوا إلى نهايته.

المخرج لا يكون في لحظة حاسمة، بل في عملية طويلة النفس:

توافق، وضمانات، وتوزيع مخاطر، وعدالة تدريجية، وبناء مؤسسات لا أبطال.

ضد أسطورة اللحظة الحاسمة

أخطر ما في خطاب “اللحظة الحاسمة” ليس أنه يدعو إلى الحرب،

بل أنه يُقنع الناس أن هذه الحرب هي الفرصة الأخيرة للنجاة.

بهذا المنطق، عاد الإسلاميون إلى الحكم أكثر من مرة:

في كل مرة باسم الخطر،

وفي كل مرة باسم إنقاذ الدولة،

وفي كل مرة باسم لحظة قيل إنها لا تحتمل الانتظار.

لكن السودان لا يحتاج من ينقذه من الخارج،

ولا من يختصر تاريخه في معركة،

ولا من يبيع له الخوف على هيئة بطولة.

ما يحتاجه السودان هو كسر هذه الأسطورة نفسها:

أسطورة أن الزمن يضغطنا إلى خيار واحد،

وأن التفكير ترف،

وأن السؤال خيانة.

اللحظة الحاسمة، حين تُستخدم بهذه الطريقة، ليست لحظة خلاص،

بل فخّ سياسي يعيد إنتاج السلطة ذاتها،

بوجوه جديدة،

وبلغة أكثر حدّة،

وبكلفة إنسانية أعلى.

التاريخ، حين يُستدعى بصدق، لا يقول لنا: “احسموا الآن”.

بل يقول:

كل اختصار قاسٍ للواقع، يدفع ثمنه الناس لاحقًا.

وكل سلطة تُعاد باسم الخوف، تُعيد الخوف بوصفه نظام حكم.

لهذا، فإن الوقوف ضد “اللحظة الحاسمة” ليس ترددًا،

بل شجاعة من نوع آخر:

شجاعة بناء زمن سياسي لا يُدار بالإنذارات،

ولا يُختزل في معركة،

ولا يُسلَّم لمن يزعم أنه وحده يعرف متى ينقذ البلاد… ومتى يحكمها.

ذلك وحده هو السدّ الحقيقي

أمام عودة الإسلاميين — أو أي مشروع شمولي —

إلى حكم السودان

على صهوة الخوف،

وباسم لحظة قيل لنا إنها الأخيرة…

ثم تبيّن دائمًا أنها كانت بداية الكارثة التالية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى