قمة النزاهة تحذر: مشاريع إعادة الإعمار في السودان معرضة للفساد

في تحذير صريح أطلقه خبراء سودانيون خلال قمة السودان للنزاهة 2025، التي انعقدت يوم الإثنين في مدينة عنتبي الأوغندية، أُثيرت مخاوف جدية من أن عمليات إعادة الإعمار في السودان قد تصبح ساحة جديدة للفساد المؤسسي، ما لم تُعتمد إصلاحات عاجلة تضمن الشفافية والمساءلة. المشاركون في القمة، التي نظمها مركز المشاريع الدولية الخاصة (CIPE) تحت شعار “بناء المساءلة والشفافية والسلام في خضم الصراع”، شددوا على أن مؤسسات الدولة لا تزال خاضعة لسلطة السلاح، في ظل غياب حكم القانون، وأن الفساد لم يعد مجرد ظاهرة بل أصبح جزءاً من بنية الصراع نفسه. وأكدوا أن الحرب الدائرة في السودان تمثل في جوهرها صراعاً على الموارد والنفوذ الاقتصادي، وليس مجرد مواجهة سياسية أو عسكرية.
رئيس المجموعة السودانية للشفافية، سليمان بلدو، قدم خلال القمة قراءة معمقة لطبيعة الفساد في السودان، مشيراً إلى أن نظام الإنقاذ كان قائماً على نهج لصوصي محميّ بقوة الأجهزة الأمنية، وأن ممارسات الفساد المؤسسي التي ترسخت خلال تلك الحقبة استمرت حتى اندلاع الحرب الحالية. بلدو أوضح أن هيئة الصناعات الدفاعية تمثل نموذجاً صارخاً للشركات المملوكة للدولة التي تُدار فعلياً بواسطة القوات المسلحة، وتعمل كمصدر تمويل رئيسي للمؤسسة العسكرية خارج الأطر الحكومية. كما أشار إلى أن محمد حمدان دقلو (حميدتي) أسس نواة شركات اقتصادية تطورت لاحقاً إلى منظومة واسعة، أبرزها شركة الجنيد للطرق والجسور، التي تولت تنفيذ معظم العقود الحكومية المخصصة لقوات الدعم السريع، ما عزز من نفوذها الاقتصادي والعسكري في آن واحد.
بلدو كشف أن قوات الدعم السريع بدأت بناء قدراتها الاقتصادية قبل سقوط نظام الإنقاذ، مستفيدة من التمويلات المباشرة التي تلقتها نتيجة مشاركتها في حرب اليمن. هذا الدعم مكّنها من التوسع في القطاع المصرفي، حيث امتلكت بنك الخليج ثم استحوذت على بنك الثروة الحيوانية، إلى جانب نشاطها في قطاع الثروة الحيوانية. وأكد أن التنافس بين الجيش والدعم السريع تصاعد منذ تلك المرحلة، خاصة بعد أن أصبحت قوات الدعم السريع تمثل، بحسب تعبيره، “حامي المصالح الاقتصادية الإماراتية في السودان”، ما أضفى على الصراع طابعاً اقتصادياً عميقاً يتجاوز الأبعاد العسكرية التقليدية.
في معرض حديثه عن محاولات الإصلاح، أشار بلدو إلى أن حكومة عبد الله حمدوك سعت إلى معالجة التشوهات الاقتصادية عبر إلغاء دعم السلع وتوحيد سعر الصرف، إلى جانب إخضاع الشركات العسكرية والأمنية للمراجعة القومية. إلا أن هذه الخطوات، وفقاً لتقييمه، كانت من بين الأسباب التي عجّلت بالانقلاب، لأن تلك الشركات “لم تكن ترغب في الخضوع لأي رقابة مستقلة”. وأوضح أن شركات الجيش والدعم السريع كانت تسيطر على أكثر من 82% من موارد الدولة، دون أن تدخل إيراداتها إلى خزينة الحكومة، ما جعل من الإصلاح المالي تحدياً سياسياً وأمنياً في آن واحد.
بلدو أكد أن الحرب الحالية كشفت مدى تغلغل المصالح الاقتصادية في الصراع، حيث عمد الطرفان إلى تدمير مقدرات بعضهما البعض عبر القصف بالطائرات والمسيّرات. وأشار إلى أن قوات الدعم السريع استولت على كميات من الصمغ العربي تُقدّر بنحو 75 مليون دولار، بينما سيطر الجيش على عائدات الضرائب في الأسواق عبر وساطة الحركة الإسلامية، بهدف تمويل معسكرات المستنفرين وتوفير الإمدادات العسكرية. هذه المعطيات، بحسب بلدو، تعكس أن الاقتصاد بات أداة مباشرة في إدارة الحرب، وأن السيطرة على الموارد أصبحت هدفاً استراتيجياً للطرفين.
في توقعاته للمرحلة المقبلة، رجّح بلدو أن تتحول قضية إعادة الإعمار إلى ساحة مواجهة جديدة بين الجيش والدعم السريع، مشيراً إلى أن التحركات بدأت بالفعل. فقد زارت منظومة الصناعات الدفاعية الروسية لعقد شراكات، بينما نظمت مصر مؤتمراً لشركاتها بهدف المشاركة في جهود الإعمار، إلى جانب استمرار التعاون مع الصين. بلدو ختم مداخلته بالقول إن “اللصوصية المؤسسية ما تزال مستمرة”، مؤكداً أن الحرب لن تتوقف ما لم يتم إخراج الأجهزة الأمنية والعسكرية من الاقتصاد، وإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس مدنية وشفافة.
من جهتها، أكدت شذى المهدي، مديرة مكتب مركز المشاريع الدولية الخاصة (CIPE) في السودان، أن التعاون بين الصحفيين ومنظمات المجتمع المدني أسفر عن تشكيل التحالف السوداني لمكافحة الفساد. وأشادت بشجاعة الصحفيين الاستقصائيين الذين يعملون في بيئة وصفتها بـ”الخطرة”، مشيرة إلى أنهم يواجهون تحديات جسيمة في سبيل كشف التجاوزات وتمليك المعلومات للرأي العام. هذا التحالف، بحسب المهدي، يمثل خطوة مهمة نحو بناء ثقافة مساءلة مجتمعية، رغم التحديات الأمنية والسياسية التي تحيط بالمشهد الإعلامي في البلاد.
في السياق ذاته، أشار نقيب الصحفيين السودانيين، عبد المنعم أبو إدريس، إلى أن الإعلام نفسه لم يسلم من الفساد، إذ بات عرضة للاحتواء من طرفي النزاع. وشدد على ضرورة إصلاح البيئة الإعلامية لضمان قيامها بدورها الرقابي، مؤكداً أن استقلالية الصحافة باتت مهددة في ظل الاستقطاب السياسي والعسكري. هذه التصريحات تعكس قلقاً متزايداً من تراجع دور الإعلام في السودان، في وقت تتزايد فيه الحاجة إلى منصات مستقلة قادرة على كشف الحقائق ومساءلة السلطة.
أستاذ السياسة العامة بجامعة لونغ آيلاند، بكري الجاك، قدّم توصيفاً حاداً للوضع في السودان، قائلاً إن البلاد أصبحت “دولة مختطفة تُدار من خارج مؤسساتها”، محذراً من أن غياب سيادة القانون يجعل أي حديث عن المساءلة مجرد إجراء شكلي. وأكد أن مشاريع الإعمار نفسها قد تتحول إلى واجهة جديدة للفساد، ما لم تُعالج جذور الأزمة المؤسسية. هذا التوصيف يعكس حجم التحديات التي تواجه السودان في مرحلة ما بعد الحرب، ويضع علامات استفهام كبيرة حول قدرة الدولة على إعادة بناء نفسها دون إصلاح جذري في بنيتها السياسية والاقتصادية.
