تسريبات

فضيحة الأدوية الفاسدة في السودان: جريمة صحية تكشف انهيار الدولة واستغلال الجيش لمعاناة المدنيين


في وقتٍ يعيش فيه السودان واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في تاريخه الحديث، تتكشف يوماً بعد يوم فضائح جديدة تعكس عمق الانهيار المؤسسي الذي أصاب الدولة، وامتداد تداعيات الحرب إلى كل تفاصيل الحياة اليومية.
آخر هذه الفضائح تمثل في قيام الجيش السوداني بتوزيع أدوية منتهية الصلاحية على المواطنين في عدد من المناطق المتضررة، في خطوة وُصفت بأنها “استهتار رسمي بحياة المدنيين”، و”جريمة صحية” تستدعي تحقيقاً دولياً عاجلاً.

أدوية الموت بدل العلاج

وفقاً لمصادر طبية وإغاثية تحدثت لـ«الصحيفة»، فقد تم خلال الأسابيع الأخيرة توزيع كميات من الأدوية عبر قوافل عسكرية في ولايات الجزيرة، نهر النيل، والقضارف، جرى تقديمها للمواطنين تحت غطاء «المساعدات الإنسانية».
غير أن فحوصاً محدودة أجراها أطباء محليون كشفت أن عدداً كبيراً من هذه الأدوية منتهي الصلاحية منذ أكثر من عام، وأنها كانت مخزّنة في ظروف سيئة لا تصلح لحفظ المستحضرات الطبية.

أحد الأطباء العاملين في منطقة الكاملين قال إنهم فوجئوا بحالات تسمم دوائي بين الأطفال وكبار السن بعد تناول مضادات حيوية وزعتها فرق تابعة للجيش. وأضاف:

“الأدوية التي وصلت إلينا كانت مختومة بشعار القيادة العامة، وتحمل تواريخ إنتاج تعود إلى عام 2020. هذا يعني أنها خرجت من الخدمة منذ زمن، لكن تم تمريرها على أنها دعم طبي للمتضررين.”

تدهور صحي شامل وغياب تام للرقابة

منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، انهار النظام الصحي في البلاد بشكل شبه كامل، حيث دُمرت المستشفيات، وتوقفت الإمدادات الدوائية، وخرجت المؤسسات الرقابية عن الخدمة.
هذا الفراغ، وفق خبراء صحيين، سمح للجهات العسكرية بأن تحتكر توزيع الأدوية والمساعدات الطبية دون أي إشراف مدني أو فني.

ويشير مصدر في وزارة الصحة (طلب حجب هويته) إلى أن الجيش يسيطر حالياً على أكثر من 70% من المساعدات الطبية الدولية التي تصل البلاد، قائلاً:

“هناك خلط واضح بين العمل الإنساني والمصالح العسكرية. ما يُقدَّم للمواطنين لم يعد يخضع لأي معايير سلامة أو رقابة طبية.”

تسييس المعاناة: الدواء كسلاح نفوذ

يرى مراقبون أن ما جرى لا يمكن فصله عن استخدام الجيش السوداني للمساعدات كأداة نفوذ سياسي وميداني.
ففي ظل احتدام الصراع، يسعى الجيش – بحسب مصادر سياسية في الخرطوم – إلى تعزيز صورته كمُنقذ للمواطنين من خلال حملات “إغاثة” تُدار إعلامياً، رغم افتقارها للمعايير الطبية.

وتقول الباحثة السودانية منى عبد القادر إن توزيع الأدوية الفاسدة ليس مجرد حادث عرضي، بل يندرج ضمن «سلوك ممنهج يعكس استغلالاً بشعاً لأزمة إنسانية»:

“الجيش يسعى لإظهار حضوره في المناطق المنكوبة عبر أي شكل من أشكال المساعدة، حتى ولو كانت قاتلة. إنها سياسة تقوم على تحويل الحاجة إلى أداة طاعة.”

الأخطر: صمت دولي

رغم خطورة ما كشفته التقارير الطبية، لم يصدر حتى الآن أي تعليق رسمي من منظمة الصحة العالمية أو المنظمات الأممية العاملة في السودان، وسط حديث عن ضغوط من السلطات العسكرية لتجنب تسليط الضوء على القضية.
ويؤكد مسؤول في منظمة إنسانية دولية، أن بعض شحنات الأدوية التي استولى عليها الجيش كانت مرسلة من منظمات إغاثية خارجية إلى مناطق مدنية محاصرة، وتم تحويل وجهتها لصالح وحدات عسكرية.

هذا الصمت، وفق خبراء قانونيين، يفتح الباب أمام تكييف الواقعة كجريمة ضد الإنسانية بموجب القانون الدولي الإنساني، كونها تمس الحق في الحياة والسلامة الجسدية في ظروف النزاعات المسلحة.

دعوات للتحقيق والمحاسبة

طالبت نقابة الأطباء السودانيين في الخارج بفتح تحقيق دولي مستقل حول مصادر الأدوية المنتهية الصلاحية وكيفية دخولها إلى البلاد، مؤكدة أن ما حدث “يتجاوز حدود الإهمال الطبي إلى مستوى الجريمة المتعمدة”.
كما دعا ناشطون حقوقيون مجلس الأمن إلى إدراج هذه الممارسات ضمن سجل الانتهاكات الإنسانية في السودان، وفرض عقوبات على القيادات العسكرية المسؤولة عن إدخال وتوزيع تلك الشحنات.

في بلدٍ تتقاذفه الحرب والمجاعة والأوبئة، يبدو أن الدواء لم يعد رمزاً للحياة، بل أصبح وجهاً آخر للموت.
فحين تتحول المساعدات إلى أدوات للتلاعب السياسي، وحين تُوزَّع الأدوية الفاسدة باسم الإنسانية، يصبح السؤال مشروعاً:
من ينقذ السودان من قتلاه الصامتين؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى