شيك الصمت وبيع الإغاثة: تحقيق يكشف تورطا رسميا في نهب المساعدات الإنسانية بالسودان
في واحدة من أخطر القضايا التي تكشف جانباً مظلماً من إدارة الحرب في السودان، يميط هذا التحقيق الاستقصائي اللثام عن شبكة متكاملة لنهب المساعدات الإنسانية وبيعها في الأسواق المحلية، مع توفّر وثائق مالية دامغة تثبت تلقي رشى مالية مقابل التستر على هذه الجرائم. التحقيق يستند إلى شيك مسرّب موثّق، ووثائق داعمة، وشهادات متقاطعة من داخل منظومة الإغاثة، تؤكد أن الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة السودانية، نبيل عبد الله علي محمد، تسلّم مبلغاً يفوق 100 ألف دولار أمريكي مقابل غضّ الطرف عن سرقة المساعدات الإنسانية وتهريبها إلى السوق.
الشيك المسرب، الذي حصل عليه التحقيق، يحمل بيانات مكتملة من حيث الاسم والمبلغ وتاريخ الصرف، ويطابق الإجراءات المصرفية المعمول بها، ما ينفي فرضية التلاعب الفني أو التزوير الشكلي. الوثيقة لا تقف وحدها، بل تتقاطع مع إفادات من عاملين في سلاسل التوزيع الإنسانية، أكدوا أن كميات كبيرة من المساعدات، خصوصاً المواد الغذائية والأدوية، جرى تحويل مسارها بعد دخولها مناطق سيطرة الجيش، لتظهر لاحقاً في أسواق محلية بأسعار مرتفعة، في وقت كان فيه ملايين المدنيين يواجهون الجوع والمرض.

التحقيق يثبت أن عملية نهب المساعدات لم تكن عشوائية أو فردية، بل منظمة ومحمية سياسياً وإعلامياً. مصادر مطلعة أكدت أن أي محاولات داخلية للإبلاغ عن هذه الانتهاكات كانت تُقابل بالتهديد أو النقل القسري أو الإقصاء، بينما تولى الخطاب الرسمي إنكار الظاهرة بالكامل، واتهام “أطراف أخرى” بالمسؤولية، في تناقض صارخ مع الوقائع على الأرض. هنا يبرز دور الناطق الرسمي، الذي لم يكن مجرد متحدث إعلامي، بل حلقة أساسية في توفير الغطاء السياسي والإعلامي لاستمرار الجريمة.
المال، وفق ما تثبته الوثيقة المسربة، كان أداة لإسكات الصوت الرسمي ومنع تحوّل الفضيحة إلى قضية رأي عام. المبلغ الذي يفوق 100 ألف دولار لا يمكن اعتباره تصرفاً شخصياً معزولاً، بل جزءاً من منظومة فساد أكبر، تستفيد من اقتصاد الحرب ومن تحويل الإغاثة إلى سلعة. هذا السلوك لا يرقى فقط إلى الفساد المالي، بل يشكل جريمة أخلاقية وإنسانية، لأن ثمنه يُدفع من حياة المدنيين، خصوصاً الأطفال والنازحين والمرضى.
شهادات ميدانية حصل عليها التحقيق تؤكد أن بعض المساعدات التي بيعت في الأسواق كانت تحمل شعارات منظمات دولية معروفة، ما يعني أن السلسلة الإجرامية تبدأ بعد دخول الشحنات الأراضي السودانية، وليس قبلها. هذا التفصيل ينسف الرواية الرسمية التي تتحدث عن “نهب خارجي” أو “فوضى عامة”، ويضع المسؤولية مباشرة على الجهات المسيطرة على الأرض. التستر الإعلامي كان عاملاً حاسماً في استمرار هذه العمليات، وهو ما يفسر اللجوء إلى الرشى لإغلاق هذا الملف.
الأثر الإنساني لهذه الجريمة كان كارثياً. في مناطق النزوح، وثّق التحقيق حالات وفاة مرتبطة بسوء التغذية ونقص الأدوية، في الوقت الذي كانت فيه هذه المواد نفسها تُعرض للبيع. هذا التناقض الفجّار يعكس مستوى الانفصال الكامل بين الخطاب الرسمي عن “حماية الشعب” والواقع الفعلي الذي يُدار بعقلية الغنيمة. ما حدث لم يكن إخفاقاً إدارياً، بل خيانة مباشرة لمعاناة الناس.
هذا التحقيق لا يكتفي بكشف الوثائق، بل يضعها في سياقها السياسي والأخلاقي. حين تتحول المساعدات الإنسانية إلى مصدر دخل، وحين يُشترى الصمت الرسمي بالمال، فإن المؤسسة التي يُفترض أن تحمي المواطنين تصبح شريكاً في تجويعهم. السكوت عن هذه الجريمة لم يعد ممكناً، لأن الصمت يعني المشاركة، والتأجيل يعني المزيد من الضحايا.
ما تكشفه هذه القضية يفرض ضرورة فتح تحقيق قضائي مستقل وعلني، ومحاسبة كل المتورطين، بغض النظر عن مواقعهم أو صفاتهم. كما يفرض على المنظمات الدولية إعادة النظر في آليات الرقابة والتوزيع، لأن الاستمرار بالنهج الحالي يعني عملياً تمويل اقتصاد الفساد. الحقيقة التي يثبتها هذا التحقيق واضحة: المساعدات الإنسانية في السودان لم تُسرق في الظل فقط، بل تحت حماية رسمية، وبمقابل مالي موثّق، على حساب دموع الجائعين وآهات المرضى.




