شرعية محاصرة: كيف كشفت نيويورك حدود البرهان الدولية؟

لم يكن قرار الولايات المتحدة الأميركية بتقييد حركة وفد عبد الفتاح البرهان في نيويورك مجرد تفصيل بروتوكولي، بل خطوة محسوبة بدقة في سياق إستراتيجية أوسع تتعلق بأمن القرن الأفريقي والبحر الأحمر. فالمسألة لا تقف عند حدود منع وفد من التنقل خارج دائرة نصف قطرها 25 ميلاً، بل تكشف عن تصاعد القلق الأميركي من الدور الذي يلعبه الجيش السوداني في النزاع الداخلي، ومن انعكاسات أفعاله على التوازنات الإقليمية والدولية.
الأمن الدولي والملف السوداني
منذ اندلاع النزاع المسلح بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تحوّل السودان إلى بؤرة تهديد للأمن الإقليمي، ليس فقط بسبب الكلفة الإنسانية الهائلة، بل أيضاً بسبب موقعه الإستراتيجي. فالدولة المترامية الأطراف والمتاخمة لسبع دول أفريقية، تطل مباشرة على البحر الأحمر، الذي يمثل شرياناً أساسياً للتجارة والطاقة العالمية. أي اضطراب داخلي في السودان، خصوصاً إذا ارتبط بانتهاكات واسعة ومجازر، سرعان ما يتحول إلى عامل توتر إقليمي ودولي.
واشنطن، التي تراقب هذه التطورات عن قرب، تدرك أن استمرار الجيش بقيادة البرهان في نهجه العسكري لن يقود سوى إلى مزيد من الانهيار والفوضى، بما يعزز فرص تدخل قوى أخرى منافسة – من روسيا إلى إيران – لاستغلال هذا الفراغ.
القيود كإجراء أمني ـ سياسي
من هنا، يبدو القرار الأميركي كجزء من سياسة “الاحتواء والضغط” في آن واحد. تقييد حركة وفد البرهان ليس فقط رسالة دبلوماسية، بل تحذير أمني بأن الجيش السوداني لم يعد محل ثقة. فالقيادة العسكرية التي تورطت في انتهاكات بولايات دارفور وكردفان تجد نفسها اليوم تحت رقابة صارمة، حتى في الأراضي الأميركية.
هذا النوع من الإجراءات يترجم عملياً الموقف الغربي: لا يُسمح لمن يُتهمون بزعزعة الاستقرار الإقليمي بأن يتمتعوا بحرية الحركة وكأنهم شركاء طبيعيون. بل يتم التعامل معهم كقادة مشبوهين، يخضعون لتدابير استثنائية تعكس حجم القلق من تصرفاتهم.
صراع النفوذ في البحر الأحمر
لا يمكن فصل هذه الخطوة عن الصراع المتنامي على البحر الأحمر. فالمنطقة تحولت خلال السنوات الأخيرة إلى مسرح تنافس بين الولايات المتحدة، الصين، روسيا، وتركيا، فضلاً عن الحضور القوي لدول الخليج. وفي هذا السياق، يشكل السودان حلقة محورية.
الجيش السوداني، بمحاولاته فتح قنوات مع موسكو بشأن إقامة قاعدة بحرية في بورتسودان، وبعلاقاته المتذبذبة مع بعض القوى الإقليمية، وضع نفسه في خانة “اللاعب غير الموثوق” بالنسبة لواشنطن. وبالتالي، جاء تقييد الحركة كإشارة واضحة: أي تحرك في اتجاهات تهدد مصالح الولايات المتحدة أو حلفائها في البحر الأحمر لن يُترك من دون رد.
البرهان كعبء أمني
اللافت أن البرهان لم يسافر بنفسه إلى نيويورك، وهو ما يمكن قراءته كمؤشر على إدراكه حجم التقييد الذي كان سيواجهه شخصياً. تفويضه لرئيس الوزراء كامل إدريس لرئاسة الوفد لا يعفيه من الحرج، بل يعكس قناعة ضمنية بأن حضوره لن يضيف شيئاً، بل ربما يزيد من عزلته.
بالنسبة للولايات المتحدة، فإن البرهان لم يعد يمثل شخصية قادرة على توفير الاستقرار أو بناء شراكة طويلة الأمد. بل تحول إلى عبء أمني، قائد عسكري يطيل أمد الحرب الأهلية ويفتح المجال أمام قوى خارجية للتغلغل في السودان.
مقارنة بوسائل العقاب الأخرى
في العادة، تلجأ واشنطن إلى العقوبات الاقتصادية أو حظر السفر كأدوات ضغط. غير أن تجربة السنوات الماضية أظهرت أن هذه الوسائل لا تحقق دائماً النتيجة المرجوة، خاصة في دول يغلب عليها الطابع العسكري وتعيش أزمات مستفحلة. لذلك، جاء اللجوء إلى أداة أكثر مباشرة: تقييد الحركة. فهي لا تطال الشعب السوداني ولا تزيد معاناته، بل تستهدف القيادة نفسها، وتضعها في موقف ضعف أمام المجتمع الدولي.
هذا الخيار يعكس إدراكاً أميركياً أن الضغط يجب أن يكون موجهاً بدقة نحو مركز القرار العسكري، لا أن يتحول إلى عقاب جماعي للشعب.
انعكاسات داخلية
على الصعيد الداخلي السوداني، سيترك القرار أثره بلا شك. فصورة الوفد المقيّد في نيويورك، العاجز عن الحركة بحرية، تعكس أمام السودانيين حالة العزلة التي تعيشها السلطة العسكرية. كما أن إبعاد البرهان نفسه عن المشاركة المباشرة يثير تساؤلات حول مدى قدرته على تمثيل البلاد في الخارج.
هذه الرمزية تضعف موقف الجيش في الداخل، خاصة مع تصاعد الانتقادات الشعبية لتعامل السلطة مع الحرب والانتهاكات. فكيف يمكن لقائد لا يُسمح له بالحركة بحرية في نيويورك أن يقنع شعبه بقدرته على قيادة السودان نحو الاستقرار؟
البعد الإقليمي
القرار الأميركي يرسل أيضاً إشارات إلى القوى الإقليمية المتعاملة مع الجيش السوداني. الرسالة مفادها أن أي رهان على البرهان كحليف مستقبلي محفوف بالمخاطر، وأن واشنطن لن تتردد في استخدام أدوات ضغط متعددة لعزله دولياً. وهذا قد يدفع بعض العواصم الإقليمية إلى إعادة النظر في حساباتها، خشية أن تجد نفسها في موقع المتناقض مع الإرادة الغربية.
تقييد حركة وفد البرهان في نيويورك ليس مجرد إجراء إداري يخص قوانين البعثات الأجنبية، بل حلقة في سلسلة أوسع من الضغوط الأميركية لإعادة رسم معادلة النفوذ في السودان. القرار يحمل في طياته رسالة أمنية قبل أن يكون دبلوماسية: أن الجيش السوداني لم يعد يُنظر إليه كضامن للاستقرار، بل كعامل تهديد يجب تطويقه ومراقبته.
