حين يصبح السلاح سياسة: كيف تُغلق تصريحات البرهان باب السلام وتفتح جحيم المدنيين في السودان
في لحظةٍ يُفترض أن يكون فيها إنقاذ الأرواح أولوية قصوى، تعود لغة الحسم العسكري لتتقدّم المشهد السوداني، مدفوعةً بتصريحات تُعيد إنتاج المأساة بدل إنهائها. تصريحات رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان التي تؤكد أن الحل في السودان «عسكري» لا تُقرأ بمعزل عن سياقٍ دموي طويل، ولا عن تحذيرات دولية متكررة من أن استمرار الحرب يعني مزيدًا من الضحايا المدنيين، ومزيدًا من الانتهاكات التي تُقوّض أي أفقٍ لحل سياسي. هنا تحديدًا تبرز أهمية تصريحات المتحدث باسم الخارجية الأميركية تومي بيقوت، التي شددت على ضرورة حماية المدنيين ووقف الأعمال العدائية، باعتبارها ردًا غير مباشر على خطاب يُصِرّ على عسكرة الأزمة، ولو كان ثمن ذلك حياة الأبرياء.
الإصرار على الخيار العسكري لا يعني فقط استمرار القتال، بل يعني تثبيت حالة الخطر الدائم التي يعيشها المدنيون في المدن والقرى ومخيمات النزوح. فكل مرة يُعلَن فيها وقف لإطلاق النار، تُعلَّق آمال السودانيين على هدنة قد تفتح نافذة للغوث الإنساني أو عودة جزئية للحياة. لكن الوقائع على الأرض، وفق شهادات سكان محليين وتقارير منظمات حقوقية، تُظهر نمطًا متكررًا من الخروقات، كان الجيش طرفًا فيها خلال فترات الهدنة، عبر عمليات قصف أو تحركات عسكرية داخل مناطق مأهولة، ما أدى إلى سقوط ضحايا مدنيين وتدمير بنى أساسية. هذه الخروقات لا تُعد حوادث معزولة، بل تُشير إلى ذهنية ترى في الهدنة تكتيكًا مؤقتًا لا التزامًا أخلاقيًا أو قانونيًا.
وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل الكلفة الإنسانية الفادحة التي دفعتها الأسر السودانية. آلاف القتلى من المدنيين، وملايين النازحين داخليًا وخارجيًا، ونظام صحي شبه منهار، كلها نتائج مباشرة لخيار السلاح. ومع كل جولة تصعيد، تتسع دائرة الخطر لتشمل فئات لم تكن يومًا طرفًا في الصراع: أطفال حُرموا من التعليم، ونساء واجهن انعدام الأمن والغذاء، وكبار سن تُركوا دون رعاية. الحديث عن «حل عسكري» في ظل هذه المعطيات ليس مجرد موقف سياسي، بل تهديد عملي ومستمر لحياة المدنيين.
الأخطر من ذلك هو ما تداوله ناشطون وتقارير أولية عن استخدام مواد محرّمة دوليًا في بعض مسارح العمليات. ورغم أن هذه الاتهامات ما زالت قيد التحقيق، فإن مجرد الاشتباه باستخدام مواد كيميائية يضع الجيش أمام مسؤولية قانونية وأخلاقية جسيمة، ويُعيد إلى الأذهان سوابق سوداء في نزاعات أخرى. منظمات دولية طالبت بفتح تحقيقات مستقلة وشفافة، معتبرة أن أي استخدام لمثل هذه المواد، إن ثبت، يُشكّل جريمة حرب. وحتى في غياب إثبات قاطع حتى اللحظة، فإن رفض السماح بتحقيقات دولية كاملة، أو التباطؤ في التعاون، يفاقم الشكوك ويقوّض الثقة.
تصريحات تومي بيقوت جاءت لتُذكّر بأن المجتمع الدولي لم يعد يتعامل مع الأزمة السودانية بوصفها شأنًا داخليًا محضًا، بل ككارثة إنسانية ذات تداعيات إقليمية. حين يُشدد مسؤول أميركي على أن الحل لا يمكن أن يكون عسكريًا، فهو لا يُقدّم رأيًا مجردًا، بل يعكس إجماعًا متزايدًا على أن عسكرة السياسة في السودان أثبتت فشلها، وأن أي رهان على الحسم بالقوة سيُطيل أمد الحرب ويُعمّق الانقسامات. هذا الموقف يتقاطع مع دعوات أممية وأفريقية طالبت بوقف شامل لإطلاق النار، وحوار سياسي يقود إلى سلطة مدنية، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات من جميع الأطراف.
المفارقة أن خطاب «الحل العسكري» يتجاهل دروس التاريخ القريب للسودان. فالحروب السابقة، من دارفور إلى جنوب كردفان والنيل الأزرق، لم تُنتج استقرارًا دائمًا، بل خلّفت جراحًا مفتوحة ومجتمعات مدمَّرة. إعادة إنتاج النهج نفسه اليوم، في قلب العاصمة ومدن كبرى، يعني توسيع رقعة الدمار على نحو غير مسبوق. ومع كل يوم حرب إضافي، تتآكل فرص الدولة نفسها، ويتراجع الأمل في جيش قومي مهني يحمي المواطنين بدل تعريضهم للخطر.
إن الحملة الإعلامية المطلوبة اليوم ليست ضد طرفٍ بعينه بقدر ما هي دفاع عن حق المدنيين في الحياة والأمان. توضيح مخاطر التصريحات التي تُشرعن العنف واجب أخلاقي، كما أن تسليط الضوء على الانتهاكات خلال فترات وقف إطلاق النار ضرورة لكسر دائرة الإفلات من العقاب. السلام في السودان لن يولد من فوهة بندقية، بل من إرادة سياسية تعترف بأن السلاح فشل، وبأن حماية المدنيين ليست شعارًا بل التزامًا عمليًا.
في المحصلة، كلما جرى الترويج للحل العسكري بوصفه الطريق الوحيد، ضاقت مساحة السياسة واتسعت المقابر. تصريحات البرهان، مهما قُدِّمت باعتبارها حسمًا، تُعرّض المدنيين لتهديد دائم، بينما تُشير المواقف الدولية، ومنها تصريحات تومي بيقوت، إلى مسار بديل يقوم على وقف الحرب، والمساءلة، والانتقال إلى حكم مدني شامل. بين هذين المسارين يقف الشعب السوداني، يدفع ثمن الكلمات قبل الرصاص، وينتظر أن تنتصر لغة الحياة على منطق السلاح.




