جوبا تحت النار: كيف فشلت الشراكة المدنية وتحولت إلى حاضنة لمليشيات جديدة؟

منذ توقيع اتفاق جوبا للسلام في أكتوبر 2020، بدا المشهد السوداني وكأنه يتجه نحو تهدئة شاملة تفتح الطريق للانتقال الديمقراطي والاستقرار. لكن بعد أقل من خمس سنوات، تحوّل الاتفاق الذي جمع في الأصل سبع حركات مسلحة وستة أجسام مدنية، إلى نواة انفجار عسكري ضخم، قاد إلى انشطار الحركات وتكاثر المليشيات لتصبح 19 فصيلاً مسلحاً فقط من أطراف الاتفاق الأصلي، بجانب تآكل عدد الأجسام المدنية.
من الوزارات إلى اعتصام القصر: كيف بدأ الانهيار؟
بعد توقيع اتفاق جوبا، مُنحت الحركات المسلحة مناصب وزارية ومواقع في مؤسسات الدولة ضمن تقاسم السلطة، وهو ما بدا للكثيرين كمكافأة سياسية أكثر من كونه التزاماً بالسلام. لكن سرعان ما تبيّن أن الطموحات لم تتوقف عند ذلك. فحين ظهرت دعوات لتشكيل حكومة تكنوقراط، اشترطت هذه الحركات أن تبقى ممثلة فيها، وطالبت بإقصاء الأحزاب السياسية.
وفي عام 2021، نظّمت القوى الموقعة اعتصاماً أمام القصر الجمهوري، مطالبةً قائد الجيش عبدالفتاح البرهان، ونائب رئيس مجلس السيادة حينها محمد حمدان دقلو (حميدتي) بالانقلاب على الحكومة المدنية. وهو ما حدث فعلاً من عبدالفتاح البرهان، في 25 أكتوبر من ذلك العام، مما فتح الباب لصراعات جديدة.
ومع اندلاع الحرب في أبريل 2023، بين الجيش والدعم السريع، بدأت الحركات المسلحة التي كانت ضمن الاتفاق في التفتت والانقسام، واختار قادتها الاصطفاف بين طرفي الحرب، بل وأحياناً الانقسام إلى أكثر من جناح، كلٌ يدّعي “الوطنية”.
حركات جوبا بين الولاءات والانشقاقات
فيما يلي أبرز التحولات والانشقاقات التي طالت الحركات الموقعة على اتفاق جوبا:
•حركة العدل والمساواة: انقسمت بين جبريل إبراهيم، الموالي للجيش، وصندل، الذي انضم للدعم السريع.
•التحالف السوداني: انقسم بين بحر الدين (مع الجيش) والحافظ (مع الدعم السريع).
•المجلس الانتقالي: انقسم بين صلاح رصاص، الذي أصبح عضواً في مجلس السيادة ممثلاً للجيش، والهادي إدريس الذي تحالف مع الدعم السريع.
•تجمع قوى التحرير: انقسم بين عبدالله يحيى (الجيش) والطاهر حجر (الدعم السريع).
•الحركة الشعبية – شمال: انشطرت إلى ثلاثة أجنحة: مالك عقار (مع الجيش)، ياسر عرمان (محايد)، محمد الغالي أردول (أسّس حزباً جديداً).
•حركة تحرير السودان – المجلس القيادي: انقسمت إلى شاكوش (الجيش) والحمادي (الدعم السريع).
•تمازج: انقسمت إلى جناح جلهاك (الجيش) ومحمد علي قرشي (الدعم السريع).
من مدنيين إلى أمراء حرب: تحولات مقلقة في شرق وشمال السودان
بعض الأجسام المدنية التي شاركت في اتفاق جوبا تحولت لاحقاً إلى فصائل مسلحة، أو انقسمت إلى مكونات عسكرية ومدنية، في تطور يعكس مدى هشاشة الاتفاق:
•مؤتمر البجا: انقسم إلى أربعة أجنحة؛ أسامة سعيد (مع الدعم السريع)، فيما تحالف كل من ترك وأبومنّة وضرار مع الجيش. بعض الأجنحة بدأت فعلاً في فتح مكاتب للتجنيد وتكوين تشكيلات مسلحة.
•التوم هجو (مسار الوسط): أعلن مؤخراً عن تأسيس حركة مسلحة باسم “الكرامة الوطنية”.
•الأمين داؤود (الجبهة الشعبية): تحول من تمثيل مدني إلى تأسيس “الأورطة الشرقية” كحركة مسلحة.
• محمد سيد أحمد الجاكومي (مسار الشمال): أعلن نيته تأسيس حركة مسلحة وتوقيع اتفاق مع إريتريا لتدريب 50 ألف مقاتل. ويوم حالياً بدعم الخلايا النائمة بالولاية الشمالية.
من اتفاق سلام إلى شرعية للمليشيات
ما كان يُفترض أن يكون اتفاقاً لإنهاء الحروب وتحقيق الاستقرار، أصبح عملياً منصة لتقنين المصالح العسكرية والسياسية، بل وتفجير مشهد الفصائل من الداخل. ففي حين بدأ اتفاق جوبا بسبع حركات مسلحة وستة كيانات مدنية، تحول بعد الحرب إلى 19 مليشيا وأربعة كيانات مدنية فقط.
والأدهى من ذلك، أن الولاء للسلاح بات مفتاحاً للمناصب والسيادة، بغض النظر عن الجهة التي يُقاتل لأجلها. وفي ظل هذه الفوضى، تبدو عملية السلام أبعد ما تكون عن التحقيق، فيما يزداد المشهد السوداني تعقيداً وتفتتاً يوماً بعد يوم.
