تسريبات من داخل المؤسسة العسكرية تكشف أزمة الإسلاميين مع البرهان
منذ اندلاع الحرب في السودان، ظل الخطاب الرسمي للجيش يتحدث عن “وحدة الصف العسكري” و”تلاحم القوى الوطنية ضد التمرد”. غير أن ما يدور خلف الكواليس في أروقة القيادة العامة وهيئة الاستخبارات يكشف واقعًا مختلفًا: انقسام صامت داخل المؤسسة العسكرية، يتزايد مع كل قرار يتخذه الفريق عبد الفتاح البرهان ضد رموز الحركة الإسلامية.
التحليل الاستخباراتي لهذا المشهد يكشف أن الأزمة بين البرهان والإسلاميين تجاوزت الخلاف السياسي إلى صراع نفوذ وهيمنة داخل الأجهزة الحساسة التي تمثل العمود الفقري للدولة.
بحسب مصادر عسكرية مطلعة، فإن الأشهر الأخيرة شهدت حملة إعادة هيكلة سرّية داخل أجهزة الجيش والاستخبارات، استهدفت الضباط الذين يُشتبه بولائهم للحركة الإسلامية.
تم نقل بعضهم إلى مواقع هامشية أو إحالتهم إلى التقاعد المبكر، بينما وُضع آخرون تحت الرقابة الميدانية.
إحدى الوثائق التي تسرّبت إلى وسائل إعلام محلية أشارت إلى أن “اللجنة الخاصة بالإصلاح العسكري” أوصت بإبعاد 37 ضابطًا من مواقع قيادية في هيئة العمليات والاستخبارات العامة بسبب “ميول أيديولوجية غير منضبطة”.
هذا القرار أحدث صدمة في صفوف الضباط الإسلاميين، الذين اعتبروا الأمر “عملية تصفية سياسية داخل الجيش”.
وبحسب مصدر رفيع في وزارة الدفاع، فإن بعضهم بدأ في “التكتل غير الرسمي” لمواجهة هذه الإجراءات، ما يثير مخاوف القيادة من انقسام داخلي محتمل.
وفق معلومات حصل عليها محللون من تقارير استخباراتية غربية، فإن جزءًا من صراع البرهان مع الإسلاميين يدور حول من يسيطر على المعلومات.
فالحركة الإسلامية، منذ عهد البشير، كانت تمتلك نفوذًا عميقًا داخل أجهزة الأمن، عبر كوادر مدربة تابعة لما يُعرف بـ”جهاز الأمن الشعبي”، وهو جهاز موازٍ لجهاز المخابرات الرسمي تم حله بعد الثورة، لكنه لم يختفِ بالكامل.
بعد الحرب، أعاد بعض الإسلاميين تنشيط خلاياهم الاستخباراتية القديمة لتأمين المعلومات من داخل الجيش ومتابعة تحركات القيادات.
هذا الوضع أثار قلق البرهان، الذي أصدر تعليمات مشددة بمراجعة منظومة الاتصالات العسكرية وحصر الصلاحيات داخل القيادة العامة.
ضابط سابق في الاستخبارات قال في حديث خاص:
“البرهان يعلم أن هناك أعينًا داخل الجيش تعمل لحساب قيادات إسلامية مدنية في الخارج. ولهذا السبب بدأ بإعادة هيكلة إدارات الاتصالات والمراقبة الإلكترونية.”
لكن هذه الخطوات زادت من حدة التوتر، إذ فُسّرت داخل أوساط الإسلاميين على أنها “عملية تطهير أمني” تستهدفهم تحديدًا.
من اللافت أن الصراع بين البرهان والحركة الإسلامية بدأ يتخذ بعدًا إعلاميًا غير مسبوق.
ففي الأسابيع الماضية، تم تسريب وثائق عسكرية وتقارير ميدانية إلى قنوات تابعة للحركة الإسلامية تتحدث عن “فشل القيادة العسكرية في إدارة المعارك”، وتنتقد “سياسات الإقصاء الممنهج” ضد الإسلاميين.
مصدر أمني في بورتسودان أكد أن “بعض هذه التسريبات مصدرها ضباط ساخطون داخل الجيش”.
كما أن لجنة أمنية خاصة شكلها البرهان لتعقب مسربي المعلومات اكتشفت أن “قنوات الاتصال بين بعض الضباط والإسلاميين المدنيين لم تنقطع رغم التحذيرات”.
هذه الحرب الخفية على المعلومات أدت إلى حالة من الارتياب المتبادل داخل المؤسسة العسكرية:
-
البرهان يشك في أن الإسلاميين يراقبونه من الداخل.
-
والإسلاميون يعتقدون أن الاستخبارات تتجسس على اجتماعاتهم الخاصة وتراقب تحركاتهم.
النتيجة كانت شللًا جزئيًا في منظومة الثقة العسكرية، وتراجعًا في فعالية التنسيق الأمني في عدد من الجبهات الحساسة.
وفق روايات ميدانية، فإن سقوط مدينة الفاشر لم يكن فقط نتيجة تفوق عسكري لقوات الدعم السريع، بل بسبب اختراق استخباراتي مزدوج داخل القوات الحكومية نفسها.
بعض التقارير تشير إلى أن أوامر الانسحاب من بعض المواقع صدرت من قنوات موازية داخل القيادة، مما أربك الخطط الدفاعية.
ضابط ميداني قال:
“في الفاشر، لم نكن نعرف من يملك القرار الحقيقي. بعض الوحدات كانت تتلقى توجيهات من قيادات إسلامية خارج منظومة القيادة العامة.”
التحليل الاستخباراتي يرى أن ما حدث في الفاشر كان الإنذار الأول بانقسام فعلي داخل المؤسسة العسكرية، وأنه دفع البرهان لاحقًا إلى تشديد قبضته على أجهزة الأمن وإبعاد كل من يشك بولائه الفكري.
لكن هذه الإجراءات جاءت بنتيجة عكسية، إذ عمّقت إحساس الإسلاميين بالاضطهاد وجعلتهم أكثر استعدادًا للمواجهة غير المباشرة.
معلومات مسربة من اجتماعات مغلقة للحركة الإسلامية تشير إلى وجود خط اتصال سري بين بعض القيادات المدنية الإسلامية المقيمة خارج السودان ومجموعات من الضباط داخل الجيش.
هذه القنوات تُستخدم لتبادل المعلومات وتنسيق المواقف في حال قررت القيادة السياسية للحركة الانفصال عن البرهان.
إحدى الرسائل المشفرة التي تم اعتراضها منتصف أغسطس الماضي تحدثت عن “ضرورة الاستعداد لمرحلة ما بعد التحالف”، في إشارة واضحة إلى فقدان الثقة الكامل بالبرهان.
تحليل هذه الرسائل داخل الأجهزة الأمنية أظهر أن الحركة لا تزال تمتلك شبكة تنظيمية تمتد داخل الوحدات العسكرية، رغم عمليات الإبعاد الأخيرة.
وبحسب خبير استخبارات إقليمي، فإن هذا الوضع يضع البرهان أمام معضلة:
“لا يمكنه القضاء على نفوذ الإسلاميين بالكامل دون أن يخسر تماسك الجيش، ولا يمكنه تركهم يتحركون بحرية لأنهم قد ينقلبون عليه في أي لحظة.”
التحليل الميداني للمشهد الأمني يشير أيضًا إلى تصاعد التوتر داخل جهاز المخابرات العامة نفسه.
فقد تم في يوليو الماضي إبعاد عدد من الضباط القدامى المحسوبين على الإسلاميين من إدارات حساسة مثل “الأمن السياسي” و“الأمن الداخلي”.
إحدى الشخصيات التي تم إقصاؤها، وكانت تشغل موقعًا مهمًا في وحدة مكافحة التهريب، صرحت لمقرّبين منها قائلة:
“البرهان يسعى لتفريغ الجهاز من أي نفوذ إسلامي حتى لو كان الثمن انهيار توازن القوة.”
هذا التوجه خلق فراغًا مهنيًا داخل الجهاز، لأن كثيرًا من هؤلاء الضباط كانوا يتمتعون بخبرة ميدانية طويلة وشبكات اتصال فعّالة في المناطق الغربية والشرقية من البلاد.
وبالتالي، فإن إقصاءهم أضعف قدرة الجهاز على جمع المعلومات الدقيقة، خصوصًا في المناطق التي تشهد نشاطًا ميدانيًا كثيفًا.
من منظور استخباراتي، فإن ما يجري داخل الجيش السوداني يقلق حلفاء البرهان الإقليميين.
التقارير الأمنية المصرية والإماراتية – بحسب مصادر دبلوماسية – حذّرت من أن “اختراق الإسلاميين داخل المؤسسة العسكرية قد يتحول إلى تهديد طويل الأمد لاستقرار الحكم”.
القاهرة، التي كانت من أبرز داعمي البرهان، باتت تخشى من عودة التيار الإسلامي إلى مراكز النفوذ الأمني، خاصة أن بعض الضباط الذين أُبعدوا بدأوا يتواصلون مع شخصيات عسكرية سابقة تقيم في تركيا وقطر.
أما أبوظبي، فترى في استمرار تحالف البرهان مع الإسلاميين “مقامرة خطيرة”، لأنها تضع السودان في مسار شبيه بما جرى في ليبيا قبل أعوام، عندما تنازعت الفصائل ذات الخلفيات الأيديولوجية على السيطرة على الجيش.
ردًا على هذه المخاوف، بدأ البرهان بتنفيذ خطة أمنية مزدوجة تهدف إلى استعادة السيطرة على مفاصل المؤسسة العسكرية دون إشعال مواجهة مباشرة مع الإسلاميين.
تقوم الخطة على ثلاثة محاور:
-
إعادة توزيع القيادات داخل الجيش والاستخبارات بطريقة تضمن ولاءً شخصيًا له أكثر من الانتماء الأيديولوجي.
-
تفعيل وحدة “الرقابة العسكرية الخاصة” لمتابعة تحركات الضباط المشتبه بهم.
-
اختراق الهياكل التنظيمية للإسلاميين عبر زرع ضباط موالين للقيادة داخل دوائرهم.
غير أن هذه الخطة تواجه تحديًا جوهريًا: فالإسلاميون يتمتعون بقدرة عالية على التكيف والاختفاء داخل المؤسسات، كما أن كثيرًا من الضباط المتعاطفين معهم لا يعلنون ولاءهم الأيديولوجي علنًا.
بالتالي، يبقى الصراع بين الطرفين صراع ظلال أكثر منه صراعًا مباشرًا، يتغذى على الشكوك والتسريبات والمعلومات المتبادلة من تحت الطاولة.
وفق التقييم الاستخباراتي، فإن العلاقة بين البرهان والحركة الإسلامية بلغت نقطة اللاعودة.
فكل طرف أصبح يرى الآخر تهديدًا استراتيجيًا لبقائه:
-
البرهان يخشى أن يتغلغل الإسلاميون في الجيش ثم ينقلبوا عليه من الداخل.
-
والإسلاميون يعتقدون أن البرهان يسعى لتفكيك وجودهم التاريخي داخل الدولة وإقصائهم نهائيًا.
هذه المعادلة تجعل من الصعب استعادة الثقة أو العودة إلى تحالف حقيقي، حتى لو أُعلنت تهدئة إعلامية مؤقتة.
كما أن تزايد الانشقاقات داخل القوة المشتركة، وتراجع السيطرة على المعلومات، ينذران بمرحلة جديدة من الصراع الداخلي قد تكون أكثر خطورة من المعارك مع الدعم السريع نفسه.
التحليل الختامي لهذه المعطيات يشير إلى أن ما يجري اليوم ليس مجرد أزمة سياسية بين البرهان والحركة الإسلامية، بل صراع بين مستويين من الدولة:
-
الدولة الرسمية التي يقودها البرهان.
-
والدولة العميقة التي بناها الإسلاميون خلال ثلاثة عقود داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية والاقتصادية.
ومهما حاول البرهان إعادة تشكيل هذه الدولة وفق رؤيته، فإن الإسلاميين ما زالوا يمتلكون أدوات التأثير والمعلومة والشبكات الميدانية.
إنها مواجهة بطيئة الإيقاع، لكنها شديدة التعقيد، حيث لا يُطلق فيها الرصاص بقدر ما تُستخدم فيها المعلومات والتسريبات والاختراقات كسلاح رئيسي.
وفي بلد مثل السودان، الذي يحكمه التوازن الدقيق بين الولاءات، قد يكون السلاح الأخطر اليوم هو من يملك الحقيقة أولًا، لا من يملك البندقية.




