تسريبات

تحالف الضرورة أم عبء المرحلة؟ قراءة تحليلية في مأزق البرهان مع الحركة الإسلامية


في المشهد السوداني المعقد، يقف الفريق أول عبد الفتاح البرهان اليوم أمام واحدة من أعقد معادلات السلطة منذ اندلاع الحرب: كيف يمكنه الاستمرار في قيادة الدولة، والحفاظ على ولاء الجيش، دون أن يتحول إلى رهينة للحركة الإسلامية التي كانت يومًا القوة الأكثر نفوذًا في مؤسسات الحكم؟

هذا السؤال أصبح محور جدل واسع داخل الأوساط السياسية والعسكرية والإقليمية على حد سواء، بعد أن تصاعدت مؤشرات الاستياء داخل صفوف الحركة الإسلامية، وظهرت تصدعات عميقة في التحالف الذي جمعها بالبرهان منذ بداية الصراع مع قوات الدعم السريع.

يستند التحالف بين البرهان والحركة الإسلامية إلى منطق الضرورة وليس القناعة. فمنذ بداية الحرب، احتاج البرهان إلى قوة منظمة ذات عمق ميداني وعقائدي قادرة على تعبئة المقاتلين وحشد الدعم اللوجستي.
الحركة الإسلامية، التي خسرت سلطتها بعد سقوط نظام البشير، رأت في الحرب فرصة للعودة إلى المسرح السياسي والعسكري من بوابة “حماية الدولة والدين”.

لكن هذا التحالف لم يكن يومًا متكافئًا.
فمن جهة، ينظر البرهان إلى الإسلاميين كأداة مؤقتة لتثبيت موقعه، لا كشريك استراتيجي. ومن جهة أخرى، يشعر الإسلاميون أن البرهان يستغلهم دون أن يمنحهم مساحة حقيقية في القرار السياسي أو العسكري.

هذا التباين في النوايا أنتج حالة من الريبة المتبادلة، سرعان ما ظهرت نتائجها في شكل قرارات مثيرة للجدل، وانقسامات داخلية، وتراجع في التنسيق الميداني، خصوصًا بعد سقوط الفاشر.

سقوط مدينة الفاشر لم يكن مجرد هزيمة عسكرية، بل كان اختبارًا سياسيًا لتحالف البرهان والإسلاميين.
ففي الوقت الذي حمّل فيه ضباط الجيش القيادات الإسلامية مسؤولية “ضعف التنسيق والانضباط”، ردت الحركة باتهام القيادة العسكرية بـ“التهميش المتعمد” و“التخبط في إدارة المعارك”.

من الناحية التحليلية، يمكن القول إن معركة الفاشر كشفت ثلاثة مؤشرات أساسية:

  1. تآكل الثقة بين القيادة والإسلاميين: فكل طرف بدأ يتصرف بمعزل عن الآخر.

  2. ضعف المركزية العسكرية: القرارات لم تعد موحدة، بل متأثرة بحسابات سياسية.

  3. تبدد صورة “التحالف المتماسك” التي حاول البرهان تسويقها داخليًا وخارجيًا.

ومع تزايد الانقسامات داخل القوة المشتركة، بدأت بعض الفصائل المسلحة، التي كانت محسوبة على الجيش، تعيد النظر في موقعها من الصراع، ما أضعف الموقف العسكري للحكومة الانتقالية.

من منظور استراتيجي، يجد البرهان نفسه عالقًا بين ضغط داخلي متصاعد من الإسلاميين وحذر خارجي من حلفائه الإقليميين.
القاهرة والرياض وأبوظبي، التي كانت تراهن على البرهان كعامل استقرار، بدأت تبدي قلقها من تمدد الإسلاميين داخل مؤسسات الجيش، خشية تكرار تجربة البشير.

هذه العواصم تنظر إلى البرهان باعتباره “شريكًا مؤقتًا” في مشروع إعادة ترتيب السلطة بالسودان، لكنها ترفض أي تمكين للحركة الإسلامية التي تعتبرها عنصر عدم استقرار إقليمي.
وبالتالي، فإن أي خطوة من البرهان لإرضاء الإسلاميين داخليًا تعني خسارة ثقة داعميه خارجيًا، والعكس صحيح.

هذا الوضع المتناقض جعل البرهان يفقد جزءًا من هامش المناورة السياسية، حيث أصبح يتحرك بين خطين متوازيين:

  • استخدام الإسلاميين ميدانيًا لتقوية الجيش.

  • طمأنة الخارج بأنه لن يسمح بعودتهم سياسيًا.

لكن الجمع بين هذين الهدفين بات شبه مستحيل، لأن الواقع الميداني والسياسي يفرض على كل طرف أن يختار موقفًا حاسمًا عاجلًا أو آجلًا.

من جانب آخر، تعيش الحركة الإسلامية حالة مراجعة داخلية غير مسبوقة.
فبعد أن رأت كيف تقلّص نفوذها داخل المؤسسات، بدأت قياداتها تفكر في خيارات بديلة لضمان بقائها وتأثيرها في المشهد.
الخيارات المطروحة داخل دوائرها تنقسم إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية:

  1. الاستمرار في التحالف المشروط مع البرهان، مع الحفاظ على وجودها داخل الجيش والمؤسسات المدنية.

  2. الانسحاب التكتيكي من التحالف، مع إعادة بناء قواعدها التنظيمية بشكل مستقل في الميدان.

  3. إعادة تموضع سياسي عبر طرح نفسها كقوة معارضة قادرة على التفاوض مستقبلاً.

لكن أياً من هذه الخيارات لا يبدو مضمون النتائج، لأن الحركة الإسلامية تدرك أن أي مواجهة مباشرة مع القيادة العسكرية قد تكلّفها ما تبقى من نفوذها، في حين أن استمرارها في التحالف الحالي يفقدها ثقة قواعدها الشعبية التي ترى أن البرهان خان التفاهمات الأولى.

من زاوية أخرى، فإن التوتر بين البرهان والإسلاميين بدأ ينعكس سلبًا على أداء المؤسسة العسكرية نفسها.
الجيش السوداني يضم في صفوفه عددًا كبيرًا من الضباط الذين تربوا في مدارس فكرية متأثرة بالحركة الإسلامية.
هؤلاء يشكّلون كتلة داخلية متماسكة، لكنهم يشعرون اليوم بالتهميش، ما يهدد بتفكك الولاءات داخل القيادة العسكرية.

التحليل العسكري يشير إلى أن أي محاولة لإقصاء الإسلاميين بشكل جذري قد تؤدي إلى انقسامات خطيرة أو حتى تمردات محدودة في بعض الوحدات.
وفي المقابل، استمرار هيمنتهم في مواقع القرار قد يضعف صورة الجيش أمام المجتمع الدولي ويؤثر على تدفق الدعم اللوجستي والعسكري.

هكذا، يصبح البرهان أمام معادلة مستحيلة: لا يستطيع الاستغناء عن الإسلاميين، ولا يستطيع منحهم السيطرة الكاملة.

في ظل هذه التحديات السياسية والعسكرية، تواجه الحكومة الانتقالية أزمة اقتصادية خانقة.
فقد أدى تراجع الدعم الإقليمي والدولي إلى نقص كبير في التمويل والإمدادات، بينما يتهم الإسلاميون القيادة العسكرية بإدارة الموارد بطريقة انتقائية تخدم مصالح مجموعة ضيقة حول البرهان.

هذا الاتهام زاد من حدة التوتر، خصوصًا أن الحركة الإسلامية كانت تعتمد على شبكاتها الاقتصادية القديمة لتمويل بعض العمليات الميدانية.
ومع قرارات البرهان الأخيرة بتجميد بعض شركاتها، بدأت تلك الشبكات تتفكك، ما جعل الحركة أكثر هشاشة ماديًا، وأكثر غضبًا سياسيًا.

التحليل الإقليمي يشير إلى أن انقسام الإسلاميين عن البرهان قد يفتح الباب أمام تحالفات جديدة في المشهد السوداني.
بعض التقارير تتحدث عن محاولات لفتح قنوات اتصال بين شخصيات إسلامية ومجموعات من الحركات المسلحة التي تبحث عن شريك سياسي جديد.
كما أن عودة بعض الوجوه الإسلامية إلى النشاط الإعلامي والسياسي في الخارج تعكس استعدادًا لمواجهة طويلة الأمد مع البرهان إذا ما انهار التحالف نهائيًا.

في المقابل، يحاول البرهان فتح خطوط موازية مع قوى مدنية وشخصيات تكنوقراطية لتخفيف الاعتماد على الإسلاميين، وهو ما قد يؤدي إلى إعادة تشكيل مراكز القوة داخل الدولة خلال الأشهر المقبلة.

استنادًا إلى المعطيات الراهنة، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمستقبل العلاقة بين البرهان والحركة الإسلامية:

  1. الاستمرار المشروط: يواصل الطرفان التعاون الميداني في إطار محدود، مع استمرار التوتر السياسي والإعلامي. هذا السيناريو هو الأقرب على المدى القصير، لأنه يخدم مصلحة البرهان في تأجيل الانفجار.

  2. الانفصال المنظم: تعلن الحركة انسحابها التدريجي من التحالف، مع الحفاظ على بعض القنوات غير الرسمية، وهو سيناريو مرجّح في حال استمرار تهميشها داخل الجيش.

  3. المواجهة المفتوحة: يحدث تصعيد بين الطرفين، قد يبدأ إعلاميًا وينتهي بصدام ميداني، وهو الاحتمال الأكثر خطورة لأنه سيقود إلى تفكك المؤسسة العسكرية وانقسام السودان إلى مراكز قوى متصارعة.

السيناريو الثالث، رغم أنه غير مرجّح في المدى القريب، إلا أن المؤشرات الحالية – مثل الانشقاقات الميدانية والاتهامات المتبادلة – تجعل احتماله قائمًا.

في النهاية، يمكن القول إن العلاقة بين البرهان والحركة الإسلامية دخلت مرحلة ما بعد الثقة.
فما كان تحالفًا قائمًا على المصالح المشتركة تحول إلى شراكة مضطرة تحكمها الحسابات اللحظية.
الإسلاميون باتوا يرون البرهان قائدًا متقلبًا يستعملهم كورقة تفاوض، بينما يرى البرهان فيهم عبئًا سياسيًا يعرقل انفتاحه الخارجي.

وفي ظل غياب رؤية واضحة لإنهاء الحرب، واستمرار الانقسام داخل القوى المسلحة والسياسية، فإن السودان يسير نحو مرحلة جديدة عنوانها تفكك التحالفات التقليدية وإعادة رسم موازين القوى.
وما لم ينجح البرهان في إيجاد صيغة بديلة تجمع بين السيطرة والاحتواء، فإن تحالفه مع الإسلاميين قد يكون آخر ورقة قوة يسقطها قبل أن يجد نفسه وحيدًا في مواجهة الجميع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى