تحقيقات

بين الخرطوم والفاشر.. جوع ينهش المدن وحصار يضاعف المأساة


في الوقت الذي تتجه فيه أنظار المجتمع الدولي نحو مدينة الفاشر في ولاية شمال دارفور، حيث يواجه عشرات الآلاف من السكان خطر المجاعة نتيجة الحصار المستمر، تتفاقم أزمة إنسانية موازية في العاصمة السودانية الخرطوم، وإن كانت أقل حضورًا في التغطية الإعلامية والاهتمام الدولي. الخرطوم، التي كانت في السابق مركزًا سياسيًا واقتصاديًا للبلاد، تعيش منذ أكثر من عامين على وقع أزمة غذائية خانقة، تفاقمت بفعل الحرب الدائرة بين الجيش السوداني وقوات التاسيس، ما حول المدينة إلى بؤرة صامتة للجوع والمعاناة اليومية.

في مدينة أم درمان، الواقعة غرب العاصمة، أصبحت المطابخ الخيرية المعروفة محليًا باسم “التكايا” تمثل خط الدفاع الأول في مواجهة الجوع المتصاعد. هذه المبادرات المجتمعية، التي يديرها متطوعون وتعتمد بشكل كامل على التبرعات الفردية، تقدم وجبات بسيطة مثل “البليلة العدسية” لآلاف الأسر المحتاجة. ومع ذلك، فإن الضغوط المتزايدة وشح الموارد يهددان استمرارية هذه الجهود، حيث يواجه مطبخ “ميدان البليلة” في منطقة الإسكان الحارة 75 خطر الإغلاق بعد أن استنفد كامل طاقته في ظل الطلب المتزايد.

الأزمة لا تقتصر على أم درمان، بل تمتد إلى مختلف أنحاء العاصمة. ففي جنوب الخرطوم، توقفت جميع المطابخ الجماعية في منطقة الكبابيش مؤقتًا نتيجة نقص التمويل، بينما تمكن مطبخ حي النصر في منطقة شرق النيل من استئناف نشاطه بعد توقف دام ثلاثة أيام بسبب انقطاع المياه، وذلك بفضل توفير أربعة براميل فقط تكفي لتشغيله ليومين. هذه الحلول المؤقتة تعكس هشاشة شبكات الإغاثة المحلية، التي باتت تعتمد على موارد محدودة لا تضمن الاستمرارية.

بيانات برنامج الأغذية العالمي ومنظمات الأمم المتحدة تشير إلى أن السودان يواجه واحدة من أخطر أزمات الجوع على مستوى العالم. أكثر من ثلاثين مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة، فيما يعاني نحو 24.6 مليون من انعدام الأمن الغذائي الحاد. وتُصنّف أوضاع نحو 638 ألف شخص بأنها “كارثية” وفق التصنيف الدولي للأمن الغذائي، من بينهم أكثر من 90 ألفًا في الخرطوم وحدها، حيث تعرقل الأوضاع الأمنية المتدهورة جهود الإغاثة وتحد من إمكانية الوصول إلى المحتاجين.

التقديرات الأممية تؤكد أن النزاع المسلح أدى إلى نزوح داخلي واسع، تجاوز أربعة عشر مليون شخص، في حين يحتاج نحو ستة عشر مليون طفل إلى مساعدات عاجلة. هذه الأرقام تضع الأزمة السودانية في صدارة الأزمات الإنسانية العالمية من حيث عدد المحتاجين للدعم، وتكشف حجم الكارثة التي تعيشها البلاد.

ورغم هذا الواقع القاتم، لا تزال المبادرات المحلية مثل “غرف الطوارئ” تحاول سد بعض الفجوات، حيث تمكنت منذ اندلاع الحرب من تقديم المساعدة لأكثر من أحد عشر مليون شخص، سواء عبر توفير الغذاء والمياه أو تنظيم عمليات إجلاء من مناطق النزاع. إلا أن غياب التمويل المستدام يهدد استمرار هذه المبادرات، ما ينذر بانهيار آخر خطوط الإغاثة في العاصمة.

العاملون في المجال الإنساني يحذرون من أن التركيز الدولي على دارفور، رغم أهميته، لا يجب أن يحجب المعاناة المتواصلة في الخرطوم، التي تواجه أزمة ممتدة منذ أكثر من عام. استمرار تجاهل هذه الأزمة يضاعف المخاطر على حياة مئات الآلاف من المدنيين الذين يعيشون في ظروف قاسية دون دعم كافٍ.

بالنسبة لكثير من سكان العاصمة، بات دعم المطابخ الجماعية وتوفير تمويل ثابت لها ضرورة وجودية، لا تقل أهمية عن أي جبهة أخرى في السودان، في ظل غياب حلول مركزية واستمرار الحرب التي تفتك بالبنية المجتمعية والاقتصادية للبلاد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى