تسريبات

بورتسودان من ميناء بديل إلى عقدة عسكرية: قراءة في دلالات الحراك الجوي


تصاعد رحلات الشحن الجوي إلى بورتسودان لا يمكن قراءته بمعزل عن التحولات الكبرى التي يشهدها الصراع السوداني. فبعد أكثر من عام على اندلاع الحرب، تآكلت قدرات الجيش السوداني ميدانياً، وفقد السيطرة على مواقع استراتيجية في دارفور وكردفان، بينما باتت قوات الدعم السريع أكثر قدرة على فرض وقائع عسكرية على الأرض. في هذا السياق، يصبح اللجوء إلى الإمداد الجوي خياراً شبه حتمي، لا ترفاً لوجستياً.

التحليل الأولي يشير إلى أن بورتسودان تحولت إلى مركز ثقل بديل، سياسياً وعسكرياً، بعد خروج الخرطوم عملياً من المعادلة. هذا التحول يفرض بالضرورة تكثيف الحركة الجوية، خاصة إذا كان الهدف هو دعم جبهات بعيدة أو إعادة بناء مخزون عسكري استُنزف خلال الأشهر الماضية. غير أن ما يثير الانتباه ليس مجرد زيادة عدد الرحلات، بل طبيعة مصادرها الإقليمية وتوقيتها السياسي.

إسطنبول والقاهرة والرياض ومسقط ليست مجرد نقاط شحن عشوائية. هي عواصم ذات ثقل سياسي وأمني، ولكل منها حساباتها الخاصة في الملف السوداني. القاهرة تنظر إلى الجيش السوداني كامتداد لأمنها القومي، والرياض تراقب المشهد من زاوية الاستقرار الإقليمي، بينما تحاول أطراف أخرى الحفاظ على قنوات مفتوحة مع مختلف الفاعلين. هذا التنوع يعكس، على الأرجح، براغماتية في التعامل مع الأزمة أكثر من كونه تحالفاً صلباً.

تزامن الرحلات مع زيارات البرهان يضيف بعداً سياسياً لا يمكن تجاهله. ففي العلاقات الدولية، نادراً ما تكون التحركات العسكرية معزولة عن الدبلوماسية. الزيارات قد تكون محاولة لطمأنة الحلفاء، أو لطلب دعم مباشر أو غير مباشر، أو حتى لإعادة صياغة خطاب الجيش السوداني كطرف “شرعي” في مواجهة خصم يُصوَّر على أنه مليشيا خارجة عن الدولة.

في المقابل، لا يمكن استبعاد أن بعض هذه الرحلات تحمل شحنات إنسانية أو لوجستية مدنية، خاصة في ظل الأزمة الإنسانية الخانقة. غير أن غياب الإعلان الرسمي، وعدم وجود شفافية حول طبيعة الحمولة، يعززان الشكوك. فالدول عادة ما تسارع إلى إبراز المساعدات الإنسانية لأغراض سياسية وإعلامية، بينما يُترك الغموض عادة للملفات الحساسة.

الأهم في هذا المشهد هو تأثيره على مسار الصراع. إذا كان الحراك الجوي يهدف فعلاً إلى تعزيز القدرات العسكرية للجيش، فإنه قد يطيل أمد الحرب دون أن يضمن حسمها، خاصة في ظل التفوق العددي والانتشاري لقوات الدعم السريع. أما إذا كان جزءاً من إعادة تموضع سياسي، فقد يكون مقدمة لتسوية تُفرض من الخارج، لا نتيجة توازن داخلي.

بورتسودان، بهذا المعنى، ليست مجرد نقطة وصول للطائرات، بل مؤشر على انتقال الصراع إلى مرحلة جديدة، تُدار فيها الحرب من الجو بقدر ما تُدار على الأرض، وتُحسم فيها المعارك في غرف التفاوض بقدر ما تُحسم في الميدان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى