بعربة يجرها حصان.. عملاق الأدب السوداني يغادر منزله المحاصر
ظل متشبثا بأوراقه حتى في زمن الحرب الغائم، فلم تجرده العواصف والأزمات من تعلقه بالكلمة، فظل وفيا لها متمسكا بأمل الخلاص على طريقته.
الشاعر السوداني هاشم صديق، لم تفلته ذاكرة السودانيين رغم انشغالهم بالصراع المستمر منذ أشهر بين الجيش وقوات الدعم السريع، فهو شاعر الشعب والثورة الذي عاد للظهور، لكن هذه المرة من بوابة قصيدة أو عمل فني من نوع مختلف.
هو الشاعر الذي خاض “مرافعات” الحراز ضد رهان المطر، فتغلغل في تفاصيل الشجرة الوحيدة في أفريقيا التي تتساقط أوراقها بموسم الأمطار، والكاتب الذي لم ينحنِ سِوى للوردة، ولم يبايع سوى كفّ الوطن، ولم يغمسْ قلمَه سوى في دواة “المبدأ والنار والغضب”.
مأساة الشاعر الذي ظهر مؤخرا على ظهر عربة يجرها حصان بحي “بانت” العريق بمدينة أم درمان غربي العاصمة الخرطوم.
قال أحد أفراد أسرته إن ظروف الحرب، وهطول الأمطار ووعورة الطريق داخل الحي السكني، أجبرتهم على نقله على ظهر عربة التي يجرها الحصان، لتلقي العلاج.
وأشار إلى انقطاع الأدوية عن الشاعر هاشم صديق طيلة الفترة الماضية، لكنه وصل إلى منطقة الثورة شمالي مدينة أم درمان، وهو حاليا في مكان آمن لتلقي العلاج.
وأوضح أن الشاعر سيغادر إلى دولة الإمارات لتلقي العلاج اللازم، فور بلوغ عافيته واكتمال الإجراءات الخاصة بالمغادرة.
“أمل حياة”
وتداول نشطاء على منصات التواصل الاجتماعي صورا توضح نقل صديق على ظهر عربة يجرها حصان من منزله الكائن في حي بانت بمدينة أم درمان غربي الخرطوم.
وظل صديق موجودا بمنزله بحي “بانت” دون أن يفارقه قيد أنملة رغم النصائح طيلة أشهر النزاع، ما أدى إلى انقطاع الأدوية، الأمر الذي أدخله في مضاعفات صحية بالغة التعقيد.
وفي تسجيل صوتي مؤثر، قال صديق إن خروجه من منطقته المحاصرة “ليس خوفا من الموت بل للبحث عن أمل في الحياة، من أجل مواصلة أعماله الإبداعية”، التي ظلت تشكل الوجدان السوداني لنحو 5 عقود.
وأضاف أنه رغم الوهن الجسدي والنفسي، فإنه يسعى لإيجاد مكان آمن يلقى فيه الرعاية الطبية، ويواصل إنتاج الشعر والكتابة.
ومنذ منتصف أبريل الماضي، يخوض الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع” اشتباكات لم تفلح سلسلة هدنات في إيقافها، ما خلف أكثر من 3 آلاف قتيل، أغلبهم مدنيون، وأكثر من 5 ملايين نازح ولاجئ داخل البلاد وخارجها، بحسب الأمم المتحدة.
مسيرة
هاشم صديق شاعر سوداني بارز متعدد المواهب، فهو أيضا كاتب مسرحي وكاتب درامي تلفزيوني وإذاعي وناقد وأكاديمي وصحفي اشتهر بتأليفه لأوبريت ملحمة قصة ثورة وهي أول وأكبر عمل غنائي استعراضي في السودان.
وعقب ثورة 21 أكتوبر 1964 بالسودان، التي أطاحت بحكم الرئيس إبراهيم عبود، أبدى صديق الذي كان شابا حينها نشاطا غير عادي في الآداب وفنون الموسيقى، وذلك من خلال انتمائه لفرع اتحاد شباب السودان بحي بانت.
وآنذاك، قام بتنظيم فعاليات ثقافية مكثفة في التمثيل والشعر والموسيقى والدراما، وفي تلك الفترة ألف أول مسرحية له عنوانها “قصة شهيد” وتولى بنفسه مهمة إخراجها أيضا.
ولاحقا، توالت أعماله في الشعر والمسرح، وكانت أول قصيدة له رأت النور هي قصيدة “النهاية” و”في يوم غريب”، وأول مسلسل إذاعي كان بعنوان “قطار الهم” الذي قُدِم في 30 حلقة في الموسم الإذاعي الرمضاني للدراما.
أما “أجراس الماضي” فكان أول مسلسل تلفزيوني ألفه، و”أحلام الزمان” أولى مسرحياته.
مواهب متعددة
مارس هاشم صديق العمل الصحفي وعمل في عدة صحف سودانية، وقد استُدعي مرات عديدة إلى مكاتب الأجهزة الأمنية ونيابة الجرائم الموجهة ضد الدولة في عهدي الرئيس جعفر نميري وعمر البشير.
تعرّض للاعتقال بسبب بعض أعماله الأدبية التي كانت تراها الحكومتان مناوئة لنظاميهما، فضلا عن اتهامه بميول شيوعية تحاربها الحكومتان.
ومن أعماله المحظورة آنذاك مسلسل “الحراز والمطر” وتم اعتقاله عند بثه لفترة شهر إبان حكومة نميري عام 1979، ومسلسل “الحاجز” في عام 1984 الذي تم إيقاف بثه أولا ثم قصت منه أجزاء من قبل الرقابة على الإعلام.
في رصيده أيضا برنامج “دراما 90 – 1993” الذي تم إيقافه من قبل أجهزة السلطة وأخيرا مسرحية “نبتا حبيبتي” التي تم إيقافها بعد يومين فقط من عرضها، بحجة أنها ضد نظام الرئيس نميري، وتم تكوين لجنة لتقييمها برئاسة بونا ملوال وزير الدولة للثقافة والإعلام آنذاك ضمت في عضويتها ممثلا لجهاز أمن الدولة. وأوصت اللجنة بالسماح بعرض المسرحية، لأن استمرارها أقل ضررا من وقفها.
ملحمة الثورة
أول عمل شعري كبير وناجح ظهر به هاشم صديق وذاع صيته عبره هو “ملحمة الثورة” أو “ملحمة قصة ثورة”، كما تسمى أحيانا، وقد كتب صديق نصوصها وهو لا يزال صغيراَ في سنه لم يتجاوز العشرين.
وتعد الملحمة التي قام بتلحينها الفنان محمد الأمين أول تجربة ناجحة في الغناء الموسيقي الكورالي بالسودان، خاصة بعد أن لاقت قبولا كبيرا لدى المستمع السوداني حتى صارت بمثابة تراث وطني ساد الساحة الفنية.
ورغم أن صديق يقول إنه تجاوز ما سماه “محطة ومرحلة الملحمة منذ فترة طويلة” فإنه لم يقدم أي عمل بحجمها، ولم يكرر التجربة، ولذلك ظلت أوبريت قصة ثورة خطوة يتيمة لم تلحقها خطوات مماثلة.
وتتميز الملحمة ببساطة وسلاسة نصوصها وضخامة معانيها وجمال الموسيقى المصاحبة لها.
وفيها يروي الشاعر يوميات الثورة انطلاقاً من خلفية الاستبداد السياسي الذي وصفه بالليل الظالم الطويل، ويستعرض هتافات الشارع وحشود الجامعة التي انطلقت منها شرارة الثورة، وشهداءها ومن بينهم أحمد القرشي طه وعبدالحفيظ نصار.